(الصفحة 364)
كتصرّف المخصّص في العام ، حيث يوجب قصر مفاده ولو في عالم الإرادة الجدّية على غير مورد الخاصّ ، فإنّ المقام ليس من هذا القبيل ، بل الحديث يخصّص لازم التكليف لا نفسه ، واستلزام تخصيص اللازم لتخصيص الملزوم ممنوع ; لأنّ الملازمة غير دائميّة ، والتعبير عن العبادات الواجبة بالاستحبابية في حقّ الصبي ، إنّما هو بلحاظ عدم ترتّب ما يترقّب من الوجوب على مخالفته ; لعدم استلزامها لاستحقاق العقوبة والمؤاخذة بوجه ، إلاّ أن يقال :
إنّ الحديث المتضمّن للرفع في مقام التشريع لا يكاد يرفع المؤاخذة أو استحقاقها أصلا ، فتدبّر .
وهذا الذي ذكرنا من المشروعية لا يمنع عن قيام الدليل على البطلان في بعض المقامات ، مثل ما ورد من عدم إجزاء حجّ الصبي المستطيع عن حجّة الإسلام(1) ، مع أنّ عدم الإجزاء لا يلازم البطلان ، كما لا يخفى .
وبهذا يتحقق الفرق بين المقام وبين قاعدة نفي الحرج ، حيث اخترنا فيها بطلان العبادة الحرجية ، ووجه الفرق أنّ لسان قاعدة نفي الحرج لسان نفي الجعل رأساً ، ومع عدم الجعل لا مجال للحكم بصحّة العبادة الحرجية ، ولسان المقام لسان رفع قلم المؤاخذة والعقوبة ، لا رفع قلم الجعل والتكليف ، فتدبّر .
ثالثها : أنّ العقل مستقلّ بحسن بعض الأفعال كالإحسان ، وردّ الأمانة إلى مالكها ، وحفظ النفس المحترمة من الهلاك ، وغير ذلك من المستقلاّت العقلية ، ولا ريب عند العقل في استحقاق الثواب وترتّب الجزاء عليها ، من دون فرق بين البالغ والصبي ، خصوصاً إذا كان مراهقاً ، وقد بقي مقدار شهر أو يوم أو ساعة إلى بلوغه
- (1) الكافي : 4 / 278 ح 18 ، الفقيه : 2 / 267 ح 1298 ، تهذيب الأحكام : 5 / 6 ح 15 ، الاستبصار : 2 / 141 ح 459 ، وعنها وسائل الشيعة : 11 / 45 ـ 46 ، كتاب الحج ، أبواب وجوبه وشرائطه ب 13 ح 1 و 2 ، وفي روضة المتقين : 5 / 42 عن الفقيه .
(الصفحة 365)
الشرعي ، ولا مجال لعروض التخصيص لما يستقلّ به العقل .
وعليه : فاللاّزم بقاعدة الملازمة استحباب هذه الاُمور شرعاً ، وترتّب ثواب الاستحباب عليها ، وبعدم القول بالفصل بين المستقلاّت العقلية وغيرها يتمّ المطلوب ويثبت الاستحباب في سائر الواجبات أيضاً .
ويرد عليه : أنّ لازم ذلك الالتزام باستحقاق العقوبة فيما يستقلّ العقل بقبحه ، كالظلم ومنع المالك عن وديعته ، وقتل النفس المحترمة ، وغير ذلك من المستقلات العقلية ، والظاهر أنّه لا يلتزم به المستدلّ بوجه ; لأنّ الصبي لا يؤاخذ بشيء من ذلك أصلا من جهة الشرع ، كما لا يخفى .
رابعها : الاعتبار العقلي ; فإنّه من المستبعد جدّاً أن يكون هناك فرق بين ما قبل البلوغ بساعة وما بعده ; فإنّ المراهق المقارب للبلوغ جدّاً ، لا ريب في أنّه بمكان من الإخلاص والعبودية لله تعالى كما بعد البلوغ ، بل في الحالة الاُولى ربّما يكون أشدّ من الحالة الثانية ، فيبعد كونه مأجوراً على الثانية دون الاُولى .
ويرد عليه : أنّ ذلك مجرّد استبعاد لا يكاد يصلح لأن يكون دليلا ، ويجري هذا الاستبعاد في جميع التقديرات الشرعية ; فإنّه من البعيد أن يكون الماء أقلّ من الكرّ بمقدار قليل ، ومع ذلك لا يترتّب عليه شيء من آثار الماء الكرّ أصلا ، أو يصلّي الإنسان قبل الوقت عمداً بلحظة يدخل الوقت بعدها ، ومع ذلك تكون صلاته باطلة ، وهكذا سائر التقديرات .
خامسها : أنّ الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء ، كما قد حقّق في الاُصول .
والجواب عنه : ما مرّ في الجهة الاُولى في تشريح القول الثاني من الأقوال الموجودة في المسألة ولا نعيد .
وهنا وجوهُ آخر ترجع إلى بعض الوجوه المذكورة ، أو استحسانات غير صالحة لأن تكون مدركاً ودليلا ، وقد انقدح تماميّة الوجهين الأوّلين للاستدلال
(الصفحة 366)
بهما على المشروعيّة الأصليّة .
وأمّا دليل القول الثالث; وهي الشرعيّة التمرينيّة ، فهو مركّب من أمرين :
أحدهما : عدم شرعيّة العبادات بعناوينها التي تعلّقت الأوامر بها ; لحديث «رفع القلم»(1) ، الذي يدلّ على رفع قلم جميع التكاليف والأحكام الخمسة ، ويكون مخصّصاً للأدلّة الأوّلية العامّة .
وثانيهما : الأخبار الكثيرة الدالّة على استحباب التمرّن للعبادات والتعوّد لها(2) ، ولا يرتفع هذا الاستحباب بحديث «رفع القلم» ; لأنّ مفاده ارتفاع كلّ ما هو جار على البالغ من الصّبي ، فرجحان أصل العمل مرفوع ; لثبوته بالإضافة إلى البالغ . وأمّا رجحان التمرّن فلا يكون في البالغ حتى يكون مرفوعاً عن الصّبي ، فيصير الحاصل ثبوت ثواب التمرّن لا أصل العبادة .
والأمران كلاهما ممنوع وإن كان منع أحدهما كافياً في إبطال الاستدلال :
أمّا الأوّل : فلما عرفت في أدلّة المشروعيّة من أنّ حديث «رفع القلم» لا يرفع المشروعية حتى في الواجبات .
وأمّا الثاني : ـ فمضافاًإلى أنّ حديث الرفع لو كان مُفاده رفع الحكم الاستحبابي أيضاً ، لكان مقتضاه نفي استحباب التمرّن بالإضافة إلى الصّبي أيضاً ، والفرق بينه وبين سائر الأحكام الاستحبابيّة بعدم كونه ثابتاً في حقّ البالغ دونها ، لا يوجب اختصاص الحديث بالثانية وعدم الشمول للأوّل ـ يرد عليه : أنّ مُفاد تلك الأخبار ثبوت الاستحباب بالإضافة إلى الولي ، وأنّ المستحب تمرينه وتعويده للصّبي ، والثواب إنّما يترتّب على عمله ، فلا يكون في فعل الصبي ثواب راجع إليه أصلا ، إلاّ
- (1) تقدم في ص 345 ـ 348 .
(2) وسائل الشيعة : 4 / 18 ـ 22 ، كتاب الصلاة ، أبواب أعداد الفرائض ب 3 و 4 ، و ج 10 / 233 ـ 237 كتاب الصوم ، أبواب من يصح منه الصوم ب 29 .
(الصفحة 367)
إذا رجع الأمر إلى ما قلنا من المشروعية الأصليّة .
وأمّا دليل القول الرّابع ، فهو أمران :
أحدهما : أنّ الطفل من جهة عدم كمال عقله إنّما يكون المحرّك والداعي له إلى العمل تمرين الولي وتشويقه وإجباره ، وحيث إنّ المباشر ضعيف فيكون السبب هو العمدة وهو الولي ، ويكون الطفل بمنزلة الآلة ، نظير ما ذكروه في باب المعاملات من جواز كون الطفل كالآلة وإن كان عاقلا قاصداً مختاراً(1) .
ثانيهما : ما ورد في باب الخبر في باب الحج في حجّ الولي بالطفل المميّز ، فإنّه قال : إنّ الوليّ إذا فعل ذلك وتمّم الأعمال كان له أجر حجّة(2) ، والظاهر منه أنّ الوليّ كأنّه فعل حجّاً ، وهذا الفعل في الحقيقة فعله ، فيكون للولي في كلّ مقام يأتي الصبيّ بعمل ثواب ذلك العمل .
ويرد على الأوّل ـ مضافاً إلى كونه أخصّ من المدّعى ; لأنّه ربما يأتي الطفل بالعبادة ويكون الداعي له إلى إتيانها تشخيص نفسه ودرك شخصه من دون أن يكون هناك وليّ ، أو تمرين منه ، أو تأثير لتشويقه أو إجباره كما لا يخفى ـ : أنّ ضعف المباشر إنّما يكون فيما إذا كان العمل مسنداً إلى السبب وكان المباشر بمنزلة الآلة ، ومن الواضح عدم كون الصبي في المقام كذلك ; فإن صلاته لا تسند إلاّ إليه ، وكذا سائر عباداته وأفعاله ، والتشويق بل الإجبار لا يوجب سلب الاستناد .
وقـد ذكرنا في بـاب الإكراه : أنّ الإكراه لايقتضي عدم استناد العمل إلى المكره ـ بالفتح ـ فشرب الخمر إذا وقع إكراهاً يكون المتّصف به هو المكره دون المكره ـ بالكسر ـ حتى يترتّب على عمله الحدّ .
نعم ، قد عرفت أنّه يترتّب على عمل الولي ثواب بلحاظ الأخبار الآمرة إيّاه
- (1) رياض المسائل : 8 / 116 .
(2) يراجع وسائل الشيعة : 11 / 54 ، كتاب الحج ، أبواب وجوبه وشرائطه ب 20 ح 1 .
(الصفحة 368)
بتمرين الصبي وتعويده على مثل الصلاة والصوم .
وعلى الثاني : أنّ ما ورد في الخبر إنّما هو ثبوت ثواب حجّة للوليّ ، ولا دلالة له على خلوّ عمل الصبي وحجّه عن ثواب وأجر ، وعليه : فلا يمكن أن يستفاد منه أنّ الوليّ كأنّه فعل حجّاً ; بمعنى عدم استناد الحج إلى الصبي ، وعدم وقوع هذه العبادة عنه ، فتدبّر .
وأمّا دليل القول الخامس ، فهو : أنّ حديث «رفع القلم» إنّما يرفع خصوص الأحكام اللزومية من رأس ، ويحكم بعدم شمول الأدلّة العامة لها بالإضافة إلى الصبي ، فلا يبقى لها مشروعية . وأمّا سائر الأحكام ، فلا دلالة للحديث على رفعها أصلا ، فهي باقية على عمومها وشمولها للصّبي .
وهذا القول وإن لم يعرف به قائل ، لكنّه ليس ببعيد ; نظراً إلى أنّ الجمع بين كون المرفوع في الحديث هو التكليف لا المؤاخذة ، وكون وقوع الحديث في مقام التفضّل والرأفة والامتنان ، يقتضي عدم كون العبادات الواجبة مشروعة في حقّه ، وبقاء العبادات المستحبّة على استحبابها ، إلاّ أن يقال : بأنّ سلب المشروعية عن العبادات الواجبة لا يلائم التفضّل والرأفة ، بل المناسب له سقوط اللزوم وبقاء المشروعية ، وهذه أيضاً جهة اُخرى موجبة لعدم منافاة الحديث للمشروعية ، زائدة على الجهات المذكورة في دليل القول المشهور ، ويتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الأظهر ما عليه المشهور .
الجهة الثالثة : في موارد تطبيق قاعدة المشروعية ، وهي كثيرة :
منها : الطّهارات الثلاث ; فإنّها بناءً على القول بالمشروعية تكون مستحبة للصبي ، كما أنّها مستحبة للبالغ أيضاً ، غاية الأمر اتّصافها في حقّ البالغ بالوجوب الغيري أيضاً بناءً على القول بوجوب المقدّمة ، وفي حقّ الصبي لا تتجاوز عن الاستحباب المتعلّق بأنفسها ، وتتصف بالاستحباب الغيري أيضاً بناءً على ذلك