(الصفحة 398)
وأمّا لو كان في مقابله مدّع هو مالك العين سابقاً ، وكان ذو اليد مستأجراً له أو مستعيراً منه ، فالظاهر عدم اعتبار اليد هنا عند العقلاء ، حيث إنّهم لا يعتبرونها في مقابل إدّعاء المالك للعين ، ولا تكون في نظرهم كاشفة وأمارة على ملكيّة العين بالإضافة إلى ذي اليد الذي كان مستأجراً أو مستعيراً . هذا مع عدم رفع الأمر إلى الحاكم ، وأمّا مع رفعه إليه فالظاهر بعد عدم اعتبار يد ذي اليد أنّه يقدّم دعوى المالك ; لأنّه بنظر العرف هو المنكر ، كما أنّ قوله موافق للأصل الذي هو استصحاب بقاء ملكيّته وعدم حدوث الملكيّة لذي اليد ، فمع عدم البيّنة له على دعواه يتوجّه الحلف إلى المالك ، وبه يرتفع التخاصم .
كما أنّه فيما لو كان في مقابل ذي اليد مدّع أجنبيّ ، ورفع الأمر إلى الحاكم ، يكون تقديم قول ذي اليد متفرّعاً على كون الأخذ بقوله فيما لو لم يكن في مقابله مدّع أصلا ، من باب كون دعواه دعوى صادرة من ذي اليد ، أو يده يداً مقرونة بالإدّعاء . وأمّا لو قلنا هناك بأنّ الأخذ بقوله إنّما هو من باب كونه مدّعياً بلا معارض ، فلا وجه لتقديم قوله هنا مع الترافع أيضاً ، كما هو واضح .
هذا كلّه فيما لو كان ذو اليد مدّعياً لملكية العين وكانت يده مقرونة بالإدّعاء . وأمّا مع خلوّها عنه فلا ريب في عدم اعتبارها ; لعدم بناء العقلاء على الأخذ بها ، كما هو ظاهر .
وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما كانت العين في السابق موقوفة ، والآن يحتمل كونها ملكاً لذي اليد باعتبار عروض بعض المسوّغات لنقلها ، فهي على قسمين ; لأنّه تارة : كانت يده عليها في السابق يداً على العين الموقوفة ، والآن يحتمل أن تكون يده يداً على ملك نفسه ، وبعبارة اُخرى : كان حدوث يده بعنوان اليد على العين الموقوفة وبقاؤها محتملا لأن يكون بعنوان الملكية ، واُخرى : كانت العين في السابق موقوفة ، ويحتمل صيرورتها ملكاً لذي اليد عند حدوث يده ; بأن كان
(الصفحة 399)
انتقالها إليه وصيرورتها في يده بعنوان الملكية .
وحكي عن السيّد الطباطبائي (قدس سره) في ملحقات العروة : أنّه فصّل بين الصّورتين ، وحكم باعتبار اليد في الصورة الثانية دون الاُولى ; نظراً إلى أنّ استصحاب حال اليد وأنّها يد على العين الموقوفة حاكم عليها ، بخلاف ماإذا لم يعلم ذلك ، واحتمل أن تكون اليد حدثت بعد بطلان الوقف ; فإنّه لا يكون في البين ما يقتضي سقوط اعتبار اليد وأماريّتها(1) .
والظاهر عدم اعتبار اليد في الصّورتين ; لعدم بناء العقلاء على ملاحظتها وترتيب الاثر عليها ; وذلك لأنّ الوقف الذي مرجعه إلى تحبيس المال وإن كان لا يختصّ بالمتشرّعة ، ضرورة ثبوته بين العقلاء غير المنتحلين إلى الشريعة ، كما نراه بالوجدان ، إلاّ أنّ المسوّغ لنقل العين الموقوفة عند العقلاء إمّا أن يكون منتفياً رأساً ، كما لعلّه الظاهر ، أو يكون على تقدير وجوده نادراً جدّاً ، بحيث لو تصرف ذو اليد في العين الموقوفة تصرّفاً كاشفاً عن الملك وعامل معها معاملة الملك لا يرونه إلاّ عادياً ، ولا يخطر ببالهم احتمال عروض المسوّغ لنقلها وصيرورتها ملكاً له .
كما أنّ الأمر في نظر المتشرعة أيضاً كذلك ، مع أنّه يجوز بيع الوقف في شريعة الإسلام في موارد كثيرة على ما قيل ، وإن كان بعضها بل جلّها لا يخلو عن نظر وإشكال ; فإنّهم أيضاً ينكرون على من في يده العين الموقوفة ويعامل معها معاملة الملك ، ويتّـهمونه بالتصرّف فيها تصرّفاً عدوانيّاً .
وبالجملة : حيث إنّ المناط والملاك في اعتبار اليد هو بناء العقلاء ، وقد عرفت أنّ المسوّغ لبيع الوقف عندهم أمره دائر بين أن يكون منتفياً رأساً ، وبين أن يكون ثابتاً مع ندرته جدّاً ، فالظاهر أنّهم لا يعتبرون اليد في الصورتين ; لأنّ الغلبة
- (1) ملحقات العروة الوثقى : 401 مسألة 64 .
(الصفحة 400)
المورّثة للظنّ بكون ما في اليد ملكاً لذيها لا تكون ثابتة في العين التي كانت موقوفة لو لم نقل بأنّ الغلبة الموجبة للظنّ ببقائها على الحالة السّابقة ثابتة ، كما هو الظاهر ، فالتفصيل المذكور لا وجه له .
ثمّ إنّ ما ذكرنا كلّه إنّمـا هو فيما لو علم بكون العين في السّابق موقوفة ، وأمّا لو لم يعلم ذلك ، بل احتمل أن تكون العين التي تحت يد المستولي موقوفة ، فلا ريب في اعتبار اليد هنا وعدم اعتناء العقلاء بهذا الاحتمال ، وإن كان كلام المحقّق النائيني (قدس سره) على ما في التقريرات يوهم عدم اعتبارها هنا أيضاً ; حيث إنّه يستفاد من بعض كلماته في هذا المقام أنّ اليد إنّما تكون أمارة بعد الفراغ عن أنّ المال قابل للنقل والانتقال ، والوقف ليس كذلك ، فإنّ ظاهره أنّه يعتبر في أمارية اليد إحراز كونه قابلا للنقل والانتقال .
وبعبارة اُخرى : إحراز عدم كونه وقفاً مع أنّه ليس كذلك ; لما عرفت من ثبوت بناء العقلاء في موارد الاحتمال ـ كما اعترف به (قدس سره) في ذيل كلامه ـ فيما لو احتمل كون المبيع حرّاً ; نظراً إلى ادّعائه ولم يعلم بكونه حرّاً قبل استيلاء ذي اليد عليه وإن استند في ذلك إلى ما ورد من الرّواية(1) ، إلاّ أنّ الظاهر عدم الاحتياج إليها ، مضافاً إلى عدم دلالتها ; لورودها فيمن كان عبداً سابقاً أو جارية كذلك ، والآن يدّعي الحرّية أو تدّعيها كما يظهر لمن راجعها(2) .
ثم إنّه ربما يمكن أن يقال بابتناء ما ذكر على كون المدرك للقاعدة منحصراً ببناء العقلاء ، وأمّا لو قيل بدلالة الروايات مستقلّة على ذلك ، فيمكن الاستدلال بإطلاق بعضها على الأمارية ولو كانت العين موقوفة في أوّل حدوث اليد ; فإنّ
- (1) فوائد الاُصول : 4 / 606 ـ 609 ، القسم الثاني .
(2) تهذيب الأحكام : 7 / 74 ح 317 و 318 ، الفقيه : 3 / 140 ح 613 و 614 ، الكافي : 5 / 211 ح 13 ، وعنها وسائل الشيعة : 18 / 250 ، كتاب التجارة ، أبواب بيع الحيوان ب 5 ح 1 و 2 .
(الصفحة 401)
قوله (عليه السلام) في موثّقة يونس المتقدّمة(1) : «من استولى على شيء منه فهو له» ظاهر في أنّ مجرّد الاستيلاء موجب للحكم بملكية المستولي ، ولا مانع من أن تكون دائرة الاعتبار في الشرع أوسع ممّا عليه بناء العقلاء ، كما أنّه يمكن أن يكون بالعكس . وعليه : فمجرّد محدوديّة بناء العقلاء في باب اليد لا يستلزم المحدودية في الشرع أصلا .
ولكن يرد عليه : أنّ قوله (عليه السلام) : «على شيء منه» يكون الضمير فيه راجعاً إلى متاع البيت ، وخصوصيّة متاع البيت وإن كانت ملغاة بنظر العرف ، إلاّ أنّه لا مجال لإلغاء هذه الخصوصيّة ; وهي عدم كون متاع البيت وقفاً ، فلا مجال لاستفادة الإطلاق أصلا .
الرّابع من موارد الخلاف : ما إذا كان في مقابل ذي اليد مدّع للملكيّة لما تحت يده ، وهو ينكره ، وفيه صور أيضاً ; فإنّه تارةً : يكون للمدّعي بيّنة على الملكية الفعليّة ، فلا إشكال في أنّ الحاكم يحكم له حينئذ ، واُخرى : لا يكون ، وفي هذه الصورة تارة : تكون ملكيته السّابقة ثابتة بالبيّنة أو بعلم الحاكم أو بإقرار ذي اليد ، واُخرى : غير ثابتة ، لا إشكال في الفرض الثاني . وأمّا الفرض الأوّل، فالظّاهر أنّ علم الحاكم بالملكيّة السّابقة أو قيام البيّنة لا يسوّغ الانتزاع من ذي اليد ; لأنّه لا أثر لشيء منهما بعد احتمال انتقال المال إلى ذي اليد بناقل شرعيّ ، واستصحاب بقائها على الحالة السابقة محكوم لقاعدة اليد التي هي أمارة ، كما في أكثر موارد القاعدة .
وأمّا لو كان ثبوت الملكية السّابقة بإقرار ذي اليد ، فهو على أقسام ; لأنّه تارة : يدّعي انتقالها من المدّعي إليه ، واُخرى : يدّعي انتقالها من المدّعي إلى ثالث ومنه إليه ، وثالثة : يدّعي انتقالها إلى الغير من دون إدّعاء انتقاله منه إليه ، ورابعة: يقتصر على مجرّد الإقرار بثبوت الملكيّة للمدّعي سابقاً ، من دون إضافة إدّعاء
(الصفحة 402)
الانتقال منه إليه أو إلى الغير .
وقبل توضيح أحكام الصّور الأربع نمهّد مقدّمة ، وهي : أنّه لا إشكال نصّاً(1)وفتوى(2) في أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر أو المدّعى عليه ، حسب اختلاف تعبير الروايات الواردة في هذا المجال ، والظاهر أنّ تشخيص المدّعي والمنكر إنّما يكون بيد العرف ; لأنّهما من الموضوعات الخارجية التي لابدّ في تشخيصها من الرجوع إلى العرف ، كتشخيص عناوين الدم والكلب والخنزير وغيرها من العناوين الموضوعة للأحكام .
فتحديدهما بأنّ المدّعي هو الذي لو ترك تركت الخصومة بخلاف المنكر ، أو بأنّ المدّعي هو الذي كان قوله مخالفاً لحجّة شرعية من أصل أو ظاهر بخلاف المنكر ، فإنّه الذي تؤيّده حجّة شرعية ، إن كان المراد هو التحديد العرفي وبيان معناهما عند العقلاء ، فلا بأس به ، ولكن لو فرض حينئذ حكم العرف في مورد بانطباق عنوان المدّعي على فلان مثلا ، فاللازم ترتيب الأثر عليه ولو لم ينطبق عليه شيء من الحدّين .
وإن كان المراد به هو بيان معناهما عند الشارع ، فيرد عليه : أنّه لم يرد في آية ولا رواية التحديد بشيء منهما ، بل ليس لبيانه ارتباط بالشارع ; لأنّهما كما عرفت من الموضوعات التي لابدّ من الرجوع في تشخيصها إلى العرف ، فاللازم الإحالة إليه ولو لم يساعد على شيء من الحدّين .
إذا عرفت ذلك فاعلم ، أنّه في الصورة الاُولى : التي يدّعي فيها ذو اليد انتقال المال من المدّعي إليه من دون واسطة ، ينقلب الإنكار من ذي اليد إلى الإدّعاء ، ويصير المدّعي منكراً والمنكر مدّعياً لو كان الملاك في تشخيص ذلك هو مصبّ
- (1) وسائل الشيعة: 27 / 233، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 3 و ص 293 ب 25 ح3.
(2) جواهر الكلام : 40 / 170 ـ 171 ، ملحقات العروة الوثقى : 6 / 497 ـ 498 .