(الصفحة 448)
أصالة الحلّية الجارية في مثله ، وكذا صلاة الجمعة التي يجري فيها استصحاب الوجوب فرضاً بمقتضى قوله (عليه السلام) : لا تنقض اليقين بالشكّ(1) ، لا تكون مشتبهة بوجه ، وهكذا .
وإن شئت قلت : إنّ الجهل في المثالين إنّما هو بالإضافة إلى الحكم الواقعي ، وأمّا بلحاظ الوظيفة الشرعيّة فالحكم معلوم لا يجري فيه جهالة ، ولا مجال لدعوى كون المراد من الجهل في الرواية النبويّة وفي الفتاوى هو الجهل بالحكم الواقعي بعد إطلاق الجهل وعدم تقييده به . ويؤيّد ما ذكرنا التعبير بالأعضال في بعض الروايات(2) الذي لا يبقى له مجال مع وضوح الوظيفة الشرعيّة ولو بحسب الحكم الظّاهري ، فالشبهة الحكميّة خارجة عن مُفاد العبارة .
وأمّا الشبهة الموضوعيّة ، فإن كانت بدوية ، فالحكم فيها معلوم غير مجهول أيضاً ; سواء كان هي البراءة أو الاحتياط ، وإن كانت مقرونة بالعلم الإجمالي ، فهي أيضاً حكمها معلوم ; سواء كان الشبهة محصورة أم غير محصورة ; لأنّ الحكم في الأوّل هو الاحتياط على ما هو المشهور(3) ، والبراءة على غيره ، وفي الثاني هو البراءة على المشهور(4) أيضاً ، فلم يبق لنا إلاّ موارد تزاحم الحقوق في الشبهة الموضوعيّة التي لم يبيّن حكمها في الشريعة ، فإذا دار أمر مال بين أن يكون لزيد أو لعمرو ، وأقام كلّ واحد منهما بيّنة على مدّعاه ، فهذا هو الأمر المجهول والمشتبه والمعضل ، الذي لا محيص فيه عن إعمال القرعة والرجوع إليها ; لعدم بيان حكمه في شيء من أدلّة الأمارات الشرعيّة والاُصول المعتبرة بوجه .
- (1) تهذيب الأحكام : 1 / 8 ح 11 ، وعنه وسائل الشيعة : 1 / 245 ، كتاب الطهارة ، أبواب نواقض الوضوء ب1 ح1 .
(2) تقدم في ص 438 .
(3) فرائد الاُصول : 2 / 210 .
(4) نهاية الأفكار : 3 / 328 و 331 .
(الصفحة 449)
نعم ، لا يختصّ إعمال القرعة بما إذا كان له واقع ، غاية الأمر كونه مجهولا عندنا ، بل يعمّ ما إذا لم يكن له واقع أصلا ، غاية الأمر الأعضال لأجل أنّه لا ترجيح في البين أصلا .
المقام الثالث : في أنّ القرعة هل تكون أمارة أو أصلا؟ فيه وجهان ، والظاهر هو الوجه الثاني :
أمّا أوّلا : فلأنّ موارد ثبوت القرعة عند العقلاء على قسمين : قسم يكون للمجهول المشتبه واقع معلوم عند الله وغير معلوم عندنا ، كالمساهمة في قصّة يونس ، بناءً على كونها لأجل تشخيص العبد الآبق كما في أحد النقلين(1) ، وقسم لا يكون له واقع معيّن ، كالمساهمة في قصّة تكفّل مريم الواقعة في الكتاب العزيز(2) ، ومن المعلوم أنّه لا تعقل الأمارية في القسم الثاني ; لعدم ثبوت واقع حتى تكون القرعة أمارة له ، والظاهر أنّه لا فرق بين هذا القسم والقسم الأوّل عند العقلاء .
وأمّا ثانياً : فلأنّا لو قلنا بأنّ الطريقية والأمارية قابلة لتعلّق الجعل بها ـ على خلاف ما حققناه في محلّه(3) ـ ولكن مورده ما إذا كان المحلّ قابلا لذلك الجعل ، من جهة كونه واجداً لوصف الطريقيّة تكويناً ; ضرورة أنّه لا يعقل جعل الطريقيّة للشك مثلا . ومن المعلوم أنّ القرعة بالكيفيّة المتداولة لا يكون فيها جهة كشف وإراءة أصلا ; ضرورة أنّ إجالة السهام ثمّ إخراج واحد منها لا يكون فيها كشف وطريقيّة ، وليس مثل خبر الثقة وشهادة عدلين ، الذي يكون مشتملا على الكشف والإراءة في نفسه ، وحينئذ فكيف يمكن جعل الحجّية لها؟ كما لا يخفى .
وأمّا ثالثاً : فلأنّه حيث يكون موضوع القرعة هو المجهول بما أنّه مجهول ، نظير
- (1) تقدّم في ص 436 .
(2) سورة آل عمران 3 : 44 .
(3) سيرى كامل در اُصول فقه : 10 / 97 و 155 .
(الصفحة 450)
سائر الاُصول التي موردها خصوص صورة الشكّ ، كأصالة الحلّية والاستصحاب ، فلابدّ من الالتزام بكونها مثلها في ذلك ; أي في عدم كونها أمارة .
ودعوى أنّ ظاهر قول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى الله ـ عزّ وجلّـ وألقوا سهامهم إلاّ خرج السّهم الأصوب»(1) أنّ القرعة لا تخطىء أصلا ، بل الخارج سهم المحقّ دائماً ، كما في مرسلة الفقيه عن الصادق (عليه السلام) أيضاً ، قال : ما تقارع قوم فوّضوا أمرهم إلى الله إلاّ خرج سهم المحقّ(2) ، وهو معنى الأماريّة ، بل هي الأمارة الدائمة المطابقة .
مدفوعة بأنّ غاية ما يدلّ عليه مثل هذا التعبير هو مجرّد تطبيق الله تعالى السهم الخارج على الواقع دائماً ، لأجل تفويض الأمر إليه وجعله هو الحكم ، وهذا يغاير معنى الأماريّة ; فإنّها متقوّمة بحيثيّة الكشف والإراءة ، والقرعة فاقدة لها ، بل تكون القرعة على هذا نظير الاستخارة التي ليست بأمارة قطعاً .
ومن ذلك يظهر الخلل فيما أفاده المحقّق البجنوردي من جعل القرعة والاستخارة من الأمارات(3) ; نظراً إلى وجود جهة الكشف فيهما والظنّ بإصابة الواقع ، ودلالة الدليل على حجّية هذه الجهة ، مثل قول أبي الحسن موسى (عليه السلام) : كلّ ما حكم الله به فليس بمخطىء(4) .
وجه الخلل ما عرفت من أنّ جهة الكاشفيّة والطريقيّة ـ التي هي أمر تكوينيّ متقوّم بالطريق ـ أمر ، وتطبيق الله تعالى السهم الخارج على الواقع غالباً أو دائماً
- (1) تهذيب الأحكام : 9 / 363 ح 1298 ، وعنه وسائل الشيعة : 26 / 312 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم ب 4 ح 4 .
(2) الفقيه : 3 / 52 ح 175 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 261 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 13 ح 13 .
(3) القواعد الفقهيّة : 1 / 68 ـ 70 .
(4) تقدم في ص 437 .
(الصفحة 451)
أمر آخر لا ارتباط بينهما ، والدليل إنّما يدلّ على الثّاني . وأمّا الأوّل : فهو مفقود في القرعة والاستخارة كليهما ، فالإنصاف أنّه لا مجال لدعوى الأماريّة في القرعة ، بل هي أصل عند العقلاء وعند الشارع ، يرجع إليه في ما لم يكن مرجّح في البين ، ولم يكن هناك أصل أو أمارة أصلا .
المقام الرابع : في تعارض القرعة مع الاستصحاب ، ونقول : إنّ النسبة بينهما وإن كانت عموماً من وجه ـ لأنّ مورد الاستصحاب هو الشك مع لحاظ الحالة السّابقة ; سواء كان في مورد تزاحم الحقوق أو غيره ، ومورد القرعة هو الشكّ في موارد تزاحم الحقوق ; سواء كان مع لحاظ الحالة السّابقة أم لا ـ إلاّ أنّك عرفت في المقام الثاني أنّ دليل الاستصحاب حاكم على دليل القرعة ; لأنّ مورد أدلّة القرعة إنّما هو الأمر المشكل الذي وقع التعبير به في كثير من الفتاوى تبعاً لجملة من النصوص ، أو مطلق المجهول الّذي وقع التعبير به في رواية محمد بن حكيم المتقدّمة(1) .
ومن المعلوم أنّ الأمر المشكل معناه هو الأمر الذي اُشكل رفع التحيّـر عنه أو الحكم فيه ; لأنّ مورد استعماله يغاير مورد استعمال كلمة «المجهول» ; فإنّه لا تستعمل كلمة «المجهول» غالباً إلاّ في ما كان له واقع معيّن عند الله مجهول عند الناس ، و«المشكل» هو ما يصعب رفع التحيّـر بالنسبة إليه ، والدليل على اختلافهما أنّه يمكن توصيف الواقع بأنّه «مجهول»، ولا يمكن توصيفه بأنّه «مشكل» . فقد ظهر أنّ المشكل يتقوّم بالتحيّـر ، ومن المعلوم أنّه مع جريان الاستصحاب لا تحيّر في البين أصلا .
وأمّا ما وقع فيه التعبير بعنوان المجهول ، فقد عرفت أنّ الجواب فيه وإن كان عامّاً ، إلاّ أنّ السّؤال حيث لا يكون تامّاً ، بل كان من المعلوم وجود شيء آخر ;
(الصفحة 452)
لأنّ السؤال عن نفس الشيء لا معنى له ، فلا مجال للاستدلال بعموم الجواب ، وليس ذلك من باب الشك في وجود القرينة ، الذي يكون بناء العقلاء على عدم الاعتناء به ، كما لا يخفى .
هذا ، مضافاً الى ما عرفت من أنّ المراد بالمجهول المطلق هو ما كان مطلق حكمه مجهولا ; سواء كان واقعيّاً أو ظاهريّاً ، ومن المعلوم أنّه مع جريان الاستصحاب لا يبقى حينئذ مجال للرجوع الى القرعة بعد تبيّن الحكم الظاهري بالاستصحاب .
ثمّ إنّه استظهر المحقّق النائيني (قدس سره) أنّه لا يمكن اجتماع القرعة مع سائر الوظائف المقرّرة للجاهل حتى تلاحظ النسبة بينهما ; لأنّ التعبّد بالقرعة إنّما يكون في مورد اشتباه موضوع التكليف وتردّده بين الاُمور المتبائنة ، ولا محلّ للقرعة في الشبهات البدوية ; سواء كانت الشبهة من مجاري أصالة البراءَة والحلّ ، أو من مجاري الاستصحاب ; لأنّ المستفاد من قوله (عليه السلام) : القرعة لكلّ مشتبه أو مجهول ، هو مورد اشتباه الموضوع بين الشيئين أو الأشياء ، فيقرع بينهما لاخراج موضوع التكليف ، ولا معنى للـقرعة في الشبـهات الـبدوية ; فإنّه ليس فيها إلاّ الاحتمالين ، والقرعة بين الاحتمالين خارجة عن مورد التعبّد بالقرعة ، فموارد البراءة والاستصحاب خارجة عن عموم أخبار القرعة بالتخصّص لا بالتخصيص ، كما يظهر من كلام الشيخ (قدس سره) (1)(2) .
ويرد عليه : أنّه بعد عدم اختصاص أدلّة الاستصحاب بالشبهات البدوية تكون موارد اجتماع الاستصحاب والقرعة كثيرة جدّاً ، خصوصاً في موارد الجهل
- (1) فرائد الاُصول : 3 / 385 .
(2) فوائد الاُصول : 4 / 678 ـ 679 .