(الصفحة 482)
وبينها في غير ذلك الباب ، كموارد الطهارة والنجاسة ، ولم يقل أحد بالفصل ، يتمّ المطلوب ; وهي حجّية البيّنة في جميع الموارد .
وقد استشكل فيها بوجهين :
أحدهما وهو العمدة : أنّ الرواية ظاهرة بل صريحة في أنّ الحكم بالحلّية في الموارد المذكورة فيها مستند إلى أصالة الحلّية التي يدلّ عليها قوله (عليه السلام) في صدر الرواية : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» وأنّ تلك الموارد من أمثلة القاعدة المذكورة وصغريات هذه الكبرى الكلّية ، مع أنّ الحلّية فيها لا تستند إلى قاعدة الحلّية بوجه ; ضرورة أنّ الحلّية في مثال الثوب مستندة إلى اليد التي هي أمارة على الملكية عند العقلاء وفي الشريعة .
وفي مثال العبد إلى الإقرار أو اليد أيضاً ، وفي مثال المرأة إلى استصحاب عدم تحقّق الرضاع وعدم اتّصافها بكونها رضيعة له ، وإلى استصحاب عدم الاُختيّة بناءً على جريانه ، وعلى فرض عدم الجريان ـ كما هو الحقّ ـ لا يكون هناك حلّية أصلا ، بل الثابت هي أصالة الفساد وعدم ترتّب الأثر على النكاح(1) .
ومن الواضح استهجان إيراد قاعدة كلّية ثمّ ذكر أمثلة خارجة عن تلك القاعدة ، خصوصاً مع التصريح بالقاعدة ثانياً وتكرارها في الذيل كما في الرواية ، وخصوصاً مع كون الحكم في بعضها على خلاف القاعدة المذكورة .
والجواب : أنّ هذا الإشكال وان كان ممّا لا سبيل إلى حلّه ، إلاّ أن تحمل الموارد المذكورة فيها ـ غير المرتبطة بالقاعدة أصلا ـ على بيان ذكر النظائر والأشباه لا المصاديق والصغريات ، إلاّ أنّه لا يقدح في الاستدلال بالرواية على ما هو المقصود في المقام من حجّية البيّنة ; فإنّ عدم انطباق القاعدة على الموارد المذكورة لا يستلزم خروج ذيل الرواية ـ الدالّ على اعتبار البيّنة وأنّ
- (1) فرائد الاُصول : 2 / 120 ـ 121 ، و ج 3 / 351 ـ 353 .
(الصفحة 483)
قيامها يوجب سقوط أصالة الحلية وعدم جريانها ـ عن الاعتبار والحجّية ، فتأمّل .
ثانيهما : أنّ كلمة «البيّنة» لم ثتبت لها حقيقة شرعية ولا متشرعيّة ، وإنّما استعملت في الكتاب والأخبار بمعناها اللغوي ، وهو ما به البيان والظّهور ، وبعبارة اُخرى : هي بمعنى الحجّة ، فلا مجال للاستدلال بالرواية على حجيّة البيّنة بالمعنى الاصطلاحي (1) .
والجواب : أنّ ظهور «البيّنة» مع الإطلاق وعدم وجود قرينة على الخلاف في هذا المعنى الاصطلاحي ممّا لا ينبغي إنكاره ، ويدلّ عليه استعمالها فيه من الصدر الأوّل في مثل قوله (صلى الله عليه وآله) : البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر(2) وقوله (صلى الله عليه وآله) : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان(3) ، وغيرهما من الموارد الكثيرة(4) ، ولم يعلم استعمالها في الكتاب وغيره في غير هذا المعنى الاصطلاحي من دون قرينة ، كما في التعبير المعروف : «دعوى فلان خالية عن البرهان والبيّنة» .
نعم ، قد استعملت في الكتاب في خمسة عشر موضعاً(5) منه بمعناها اللغوي ; وهو الظهور والبيان ، لكن مع القرينة ، فنرى أنّه قد عبرّ فيه عن معجزتي موسى (عليه السلام) تارة بالبرهان في قوله تعالى : {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ}(6) واُخرى
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الطهارة : 2 / 262 ـ 264 .
(2) المفردات في غريب القرآن : 68 ، وقد تقدّم في ص 351 باختلاف يسير .
(3) الكافي : 7 / 414 ح 1 ، تهذيب الأحكام : 6 / 229 ح 552 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 / 232 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 2 ح 1 .
(4) وسائل الشيعة : 27 / 229 ـ 235 ب 1 ـ 3 ، ومستدرك الوسائل : 17 / 362 ـ 368 ب 1 ـ 3 .
(5) سورة الأنعام 6 : 57 و 157 ، سورة الأعراف 7 : 73 و 85 ، سورة الأنفال 8 : 42 ، سورة هود 11 : 17 ، 28 ، 53 ، 63 و 88 ، سورة طه 20 : 133 ، سورة العنكبوت 29 : 35 ، سورة فاطر 35 : 40 سورة محمد 47 : 14 ، سورة البيّنة 98 : 1 و 4 .
(6) سورة القصص 28 : 32 .
(الصفحة 484)
بالبيّنة في قوله تعالى : {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَة مِن رَّبِّكُمْ}(1) مع أنّ توصيف البيّنة بكونها من ناحية الرّب أيضاً يدلّ على كون المراد هي الحجّة الواضحة .
ويدلّ على كون المراد بالبيّنة في الموثّقة خصوص المعنى الاصطلاحي ، أنّه لو كان المراد بها هو المعنى اللغوي ، يلزم أن تكون الاستبانة أيضاً من مصاديق البيّنة ، فيكون العطف من قبيل عطف العامّ على الخاصّ ، وهو خلاف ما هو المتفاهم عرفاً منها ، كما لا يخفى .
ودعوى أنّه يمكن أن يكون المراد بالبيّنة في النبويّين أيضاً هو المعنى اللّغوي لا شهادة عدلين ، مدفوعة ـ مضافاً إلى كونه خلاف ما فهمه الأصحاب منهما ، وقد عبّروا بمثلهما في كتاب القضاء اقتباساً منه (صلى الله عليه وآله) مع وضوح كون مرادهم هو المعنى الاصطلاحي ـ بأنّه لو كان المراد بها هو المعنى اللغوي الذي هي الحجّة ، لكان المنكر أيضاً واجداً للحجّة ، خصوصاً لو كان تعريفه : أنّه «من كان قوله موافقاً للأصل أو الظاهر» ; فإنّ المنكر حينئذ يكون واجداً للحجّة ، فلا يبقى فرق بينه وبين المدّعي ، ولا وجه لترجيحه عليه بعد اشتراكهما في ثبوت الحجّة لهما ، كما هو ظاهر .
فانقدح أنّه لا مجال لانكار كون البيّنة في الرّواية بالمعنى الاصطلاحي الذي هو شهادة عدلين ، وأنّ الرواية ظاهرة في اعتبارها وحجّيتها .
ثمّ إنّ في الرواية اشكالا ثالثاً ; وهو أنّه قد جعلت البيّنة فيها غاية للحلّ ، فكأنّه قال (عليه السلام) : كلّ شيء لك حلال حتى تعلم حرمته أو تقوم البيّنة على حرمته ، فغاية مدلول الرواية حجّية البيّنة لإثبات حكم الحرمة لا إثبات الموضوعات ، كخمرية هذا المائع ، وكريّة ذلك الماء وأشباههما ، بل لا تدلّ على حجّيتها لإثبات الأحكام الجزئية ; كنجاسة هذا الثوب وملكية ذلك الشيء لفلان وأمثال ذلك ،
- (1) سورة الأعراف 7 : 105 .
(الصفحة 485)
فالموثّقة لا تنطبق على المدّعى في باب حجّية البيّنة .
والجواب : أنّه لا خفاء في كون الموثّقة واردة في الشبهات الموضوعيّة ; فإنّ الأمثلة المذكورة فيها وإن كانت خارجة عن الصغروية للكبرى المذكورة فيها على ما عرفت ، إلاّ أنّ التعرّض لها وإيرادها ولو بعنوان بيان النظائر والأشباه ، يدلّ على أنّ المفروض في الرّواية خصوص الشبهة الموضوعية التحريميّة .
وعليه : فالمراد بالاستبانة المذكورة في الرّواية هو استبانة العنوان المحرّم ، وكون مورد الشبهة مصداقاً للخمر مثلا ، لا استبانة الحكم المتحقّقة في الشبهة الحكمية أيضاً ، وقيام البيّنة صار معطوفاً على الاستبانة بالمعنى المذكور ، فلابدّ من أن يكون المراد بها هي البيّنة القائمة على تشخيص الموضوع وبيان العنوان المحرّم ، لا البيّنة على الحكم كما هو ظاهر ، فالإنصاف تمامية دلالة الرواية على اعتبار البيّنة في الموضوعات الخارجيّة .
ومن الرّوايات : رواية عبدالله بن سليمان المروية في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في الجبن : كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أنّ فيه ميتة(1) . والرواية بلحاظ ورودها في الجبن ـ الذي يكون منشأ الشك في حليّته وجود الميتة فيه ، وبعبارة اُخرى : كون الشبهة موضوعية ـ وبلحاظ قوله (عليه السلام) : «إنّ فيه ميتة» ، ظاهرة في أنّ مجيء شاهدين يشهدان بذلك حجّة شرعية على ثبوت موضوع الحرمة ووجود الميتة فيه ، والرّواية دالّة على قاعدة كلّية ، وذكر الميتة بلحاظ ورودها في الجبن ، وإلاّ فمن الواضح أنّه لا خصوصية للجبن والميتة ، وإلاّ لا مجال للتعبير بقوله : «كلّ شيء حلال» ، فإلقاء الضابطة الكليّة ناظر إلى أنّه لا خصوصية للجبن ، ومعها لا يبقى مجال لخصوصية الميتة من بين المحرّمات ; لأنّ التعرّض لها إنّما
- (1) الكافي : 6 / 339 ح 2 ، وعنه وسائل الشيعة : 25 / 118 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأطعمة المباحة ب 61 ح 2 .
(الصفحة 486)
هو لارتباطها بالجبن كما هو واضح .
كما أنّ حصر الغاية في البيّنة ليس في مقابل العلم الذي هي حجّة ذاتيّة ، بل إنّما هو لإفادة كون البيّنة قائمة شرعاً مقام العلم ، وقد عرفت أنّ عدم الفصل في الشبهات الموضوعية بين التحريمية وغيرها من سائر الشبهات ، يوجب تمامية دلالة الرواية على اعتبار البيّنة في الموضوعات مطلقاً ، فلا يتوهّم اختصاص الرواية بالشبهات الموضوعية التحريمية .
ومنها : الرّوايات المتعدّدة الواردة في رؤية الهلال الدالّة على ثبوتها بشهادة عدلين بها ، مثل :
صحيحة الحلبي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول : لا اُجيز في الهلال إلاّ شهادة رجلين عدلين(1) .
وصحيحة منصور بن حازم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أيضاً قال : صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته ، فإن شهد عندكم شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه(2) . وغيرهما من الروايات الواردة في هذا المجال(3) .
وتقريب الاستدلال بها أن يقال : إنّه (عليه السلام) بصدد أنّه لا يثبت الهلال إلاّ بالرؤية والعلم ، أو بما هو بمنزلة العلم في إثبات ما قام عليه ، فكأنّه (عليه السلام) جعل أمارية البيّنة وكونها بمنزلة العلم أمراً مفروغاً عنه ومن المسلّمات . ويؤيّده أنّه في الصدر علّق الحكم بوجوب الصّوم والإفطار على الرؤية التي هي المشاهدة ، ثمّ فرّع عليه مسألة الشهادة والبيّنة ، ولولا قيام البيّنة مقام العلم وكونه بمنزلته لا يكاد يتمّ
- (1) الكافي : 4 / 76 ح 2 ، الفقيه : 2 / 77 ح 338 ، وعنهما وسائل الشيعة : 10 / 286 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 1 .
(2) تهذيب الأحكام : 4 / 157 ح 436 ، الاستبصار : 2 / 63 ح 205 ، المقنعة : 297 ، وعنها وسائل الشيعة : 10 / 287 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 4 .
(3) وسائل الشيعة : 10 / 286 ـ 292 ، أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 .