(الصفحة 485)
فالموثّقة لا تنطبق على المدّعى في باب حجّية البيّنة .
والجواب : أنّه لا خفاء في كون الموثّقة واردة في الشبهات الموضوعيّة ; فإنّ الأمثلة المذكورة فيها وإن كانت خارجة عن الصغروية للكبرى المذكورة فيها على ما عرفت ، إلاّ أنّ التعرّض لها وإيرادها ولو بعنوان بيان النظائر والأشباه ، يدلّ على أنّ المفروض في الرّواية خصوص الشبهة الموضوعية التحريميّة .
وعليه : فالمراد بالاستبانة المذكورة في الرّواية هو استبانة العنوان المحرّم ، وكون مورد الشبهة مصداقاً للخمر مثلا ، لا استبانة الحكم المتحقّقة في الشبهة الحكمية أيضاً ، وقيام البيّنة صار معطوفاً على الاستبانة بالمعنى المذكور ، فلابدّ من أن يكون المراد بها هي البيّنة القائمة على تشخيص الموضوع وبيان العنوان المحرّم ، لا البيّنة على الحكم كما هو ظاهر ، فالإنصاف تمامية دلالة الرواية على اعتبار البيّنة في الموضوعات الخارجيّة .
ومن الرّوايات : رواية عبدالله بن سليمان المروية في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في الجبن : كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أنّ فيه ميتة(1) . والرواية بلحاظ ورودها في الجبن ـ الذي يكون منشأ الشك في حليّته وجود الميتة فيه ، وبعبارة اُخرى : كون الشبهة موضوعية ـ وبلحاظ قوله (عليه السلام) : «إنّ فيه ميتة» ، ظاهرة في أنّ مجيء شاهدين يشهدان بذلك حجّة شرعية على ثبوت موضوع الحرمة ووجود الميتة فيه ، والرّواية دالّة على قاعدة كلّية ، وذكر الميتة بلحاظ ورودها في الجبن ، وإلاّ فمن الواضح أنّه لا خصوصية للجبن والميتة ، وإلاّ لا مجال للتعبير بقوله : «كلّ شيء حلال» ، فإلقاء الضابطة الكليّة ناظر إلى أنّه لا خصوصية للجبن ، ومعها لا يبقى مجال لخصوصية الميتة من بين المحرّمات ; لأنّ التعرّض لها إنّما
- (1) الكافي : 6 / 339 ح 2 ، وعنه وسائل الشيعة : 25 / 118 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأطعمة المباحة ب 61 ح 2 .
(الصفحة 486)
هو لارتباطها بالجبن كما هو واضح .
كما أنّ حصر الغاية في البيّنة ليس في مقابل العلم الذي هي حجّة ذاتيّة ، بل إنّما هو لإفادة كون البيّنة قائمة شرعاً مقام العلم ، وقد عرفت أنّ عدم الفصل في الشبهات الموضوعية بين التحريمية وغيرها من سائر الشبهات ، يوجب تمامية دلالة الرواية على اعتبار البيّنة في الموضوعات مطلقاً ، فلا يتوهّم اختصاص الرواية بالشبهات الموضوعية التحريمية .
ومنها : الرّوايات المتعدّدة الواردة في رؤية الهلال الدالّة على ثبوتها بشهادة عدلين بها ، مثل :
صحيحة الحلبي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول : لا اُجيز في الهلال إلاّ شهادة رجلين عدلين(1) .
وصحيحة منصور بن حازم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أيضاً قال : صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته ، فإن شهد عندكم شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه(2) . وغيرهما من الروايات الواردة في هذا المجال(3) .
وتقريب الاستدلال بها أن يقال : إنّه (عليه السلام) بصدد أنّه لا يثبت الهلال إلاّ بالرؤية والعلم ، أو بما هو بمنزلة العلم في إثبات ما قام عليه ، فكأنّه (عليه السلام) جعل أمارية البيّنة وكونها بمنزلة العلم أمراً مفروغاً عنه ومن المسلّمات . ويؤيّده أنّه في الصدر علّق الحكم بوجوب الصّوم والإفطار على الرؤية التي هي المشاهدة ، ثمّ فرّع عليه مسألة الشهادة والبيّنة ، ولولا قيام البيّنة مقام العلم وكونه بمنزلته لا يكاد يتمّ
- (1) الكافي : 4 / 76 ح 2 ، الفقيه : 2 / 77 ح 338 ، وعنهما وسائل الشيعة : 10 / 286 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 1 .
(2) تهذيب الأحكام : 4 / 157 ح 436 ، الاستبصار : 2 / 63 ح 205 ، المقنعة : 297 ، وعنها وسائل الشيعة : 10 / 287 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 4 .
(3) وسائل الشيعة : 10 / 286 ـ 292 ، أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 .
(الصفحة 487)
التفريع ، كما لا يخفى .
هذا ، ولكن مقتضى ما ذكر : كون قيام البيّنة مقام العلم واعتبارها وحجيّتها مفروغاً عنه في مسألة الرؤية ، وأمّا كونها معتبرة في جميع الموارد والشبهات فلا دلالة للروايات عليه .
ومنها : الروايات المتعدّدة أيضاً الواردة في لزوم تصديق المسلم إذا شهد ، وقبول شهادة المؤمن ، مثل قوله (عليه السلام) : إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم(1) .
وقوله (عليه السلام) : إذا شهد عندكم المؤمنون فاقبلوا(2) ، وغيرهما من الروايات الواردة بهذا المضمون .
ولكنّ الظاهر أنّه لا دليل على كون المراد بالشهادة في مثل الروايتين هي شهادة المتعدّد من المسلم أو المؤمن ، بل يحتمل قويّا أن يكون المراد لزوم قبول قولهم وإن لم يكن متعدّداً ، بل وإن لم يكن عادلا ، فلا دلالة لها على اعتبار البيّنة المتقوّمة بالتعدّد والعدالة ، إلاّ أن يتحقّق السّلوك من طريق الأولوية ، وهي وإن كانت متحققة إلاّ أنّها تجدي فيما إذا كان الأصل مورداً للقبول ، مع أنّ لزوم التصديق بالنحو المذكور الذي هو مفاد الروايتين ممّا لم يقل به أحد .
هذا ، وقد احتمل في الروايتين أن يكون المراد منهما ما هو المراد من قوله تعالى : {يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}(3) من أنّ المراد هو القبول الصوري وعدم تكذيبهم ، لا ترتيب الآثار الواقعية على مجرّد إخبارهم وإن كان بضرر غيرهم .
الرّابع : الكتاب ، وقد وقع التعرّض فيه لشهادة العدلين في موارد ، ففي مورد
- (1) الكافي : 5 / 299 قطعة من ح 1 ، وعنه وسائل الشيعة : 19 / 83 ، كتاب الوديعة ب 6 قطعة من ح 1 ، وفيهما : المؤمنون بدل «المسلمون» .
(2) لم نظفر عليه في الكتب الروائية ، والناقل هو صاحب العناوين في ج 2 / 561 .
(3) سورة التوبة 9 : 61 .
(الصفحة 488)
الدين قوله تعالى : {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ}(1) . وفي مورد الوصيّة ، قوله تعالى : {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْل مِّنْكُمْ}(2) . وفي مورد جزاء الصيد في حال الإحرام ، وحكم رجلين عدلين وشهادتهما بالمثلية للصيد : {يَحكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنْكُمْ}(3) . وفي مورد الطلاق : {وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْل مِّنْكُمْ}(4) .
والمستفاد منها ـ بعد دلالتها على اعتبار البيّنة في الموارد المذكورة ; ضرورة أنّ الاستشهاد إنّما هو لغرض الشهادة ، فلو لم تكن الشهادة حجّة ومعتبرة لما كان وجه للاستشهاد ، فلزوم إشهاد عدلين عند الطلاق لا ينفكّ عن اعتبار شهادتهما به بعداً ـ أنّ البيّنة حجّة شرعية قائمة مقام العلم في جميع الموارد والموضوعات ، من دون أن تكون خصوصية للموارد المذكورة .
هذا ، وقد ورد في الكتاب أيضاً آيات دالّة على وجوب تحمّل الشهادة ووجوب أدائها وحرمة كتمانها ; كقوله تعالى : {وَأَقِيمُوا الْشَّهَادَةَ لِلّهِ}(5) . وقوله تعالى : {وَلاَ يَأْبَ الْشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}(6) . وقوله تعالى : {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ}(7) ، وظاهرها بمقتضى الدلالة الالتزامية الحجّية والاعتبار كما عرفت ; لأنّه لا معنى للزوم التحمّل والأداء وحرمة الكتمان مع عدم وجوب التصديق ، وعدم لزوم القبول ، وترتيب الأثر .
- (1) سورة البقرة 2 : 282 .
(2) سورة المائدة 5 : 106 .
(3) سورة المائدة 5 : 95 .
(4، 5) سورة الطلاق 65 : 2 .
(6) سورة البقرة 2 : 282 .
(7) سورة البقرة 2 : 283 .
(الصفحة 489)
وبالجملة : لا يبقى لمن امعن النظر في موارد قبول شهادة العدلين ارتياب في أنّه لا خصوصية لتلك الموارد ، بل حجّيتها إنّما هي بنحو العموم والشمول لجميع الموضوعات إلاّ ما خرج بالدليل ، مثل الزنا واللواط(1) وغيرهما .
الخامس : سيرة العقلاء من جميع الملل وإن لم يكونوا متشرّعين بشريعة أصلا ; فإنّهم يرون شهادة شخصين موثّقين طريقاً مثبتاً إلى الموضوعات التي تترتّب عليها الأحكام العرفية والآثار العقلائيّة .
ويرد عليه : عدم انطباق هذا الدليل على المدّعى ; فإنّ المدّعى كما عرفت يعتبر فيه التعدّد والعدالة ، فإنّه المراد من البيّنة بالمعنى الاصطلاحي ، والدليل وهي سيرة العقلاء إنّما يكون موردها مطلق الشهادة ولو لم يكن من الشخصين ، كما أنّه لا يعتبر فيه العدالة بل يكفي مجرّد الوثاقة ، وسيأتي أنّ السيرة بهذا العرض الوسيع مردوعة عنها في الشريعة ، إلاّ أن يقال : إنّ الرّدع إنّما هو بالإضافة إلى قسم من مورد جريان السيرة . وامّا بالنسبة إلى ما كان مشتملا على التعدّد والعدالة فلم يتحقّق الردع ، بل كان الأخبار الكثيرة المتقدّمة بمنزلة الإمضاء له ، كما لايخفى .
السادس : أنّ الموضوعات لا ريب في كون أكثرها خفية على أكثر الناس ; بمعنى أنّ كلّ صنف من الناس وإن كان لهم التسلّط على معرفة صنف من الموضوعات ، لكنّ الغالب لا بصيرة له في الغالب ، فلو كانت الأحكام معلّقة على العلم بالموضوعات لزم تعطيل الأحكام غالباً ، ولزم الهرج والمرج ، فلابدّ من كون شيء معتبراً في الشرع في الموضوعات غير العلم ممّا يوجب الوثوق بها ، ولا قائل بما هو أزيد من البيّنة من شهادة ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو نحو ذلك . نعم ، في حجّية شهادة العدل الواحد كلام يأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى .
السّابع : لو دار ثبوت الموضوعات المترتّبة عليها الأحكام في الشريعة مدار
- (1) يراجع تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ، كتاب الحدود : 114 ـ 121 وص 288 ـ 293 .