(الصفحة 488)
الدين قوله تعالى : {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ}(1) . وفي مورد الوصيّة ، قوله تعالى : {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْل مِّنْكُمْ}(2) . وفي مورد جزاء الصيد في حال الإحرام ، وحكم رجلين عدلين وشهادتهما بالمثلية للصيد : {يَحكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنْكُمْ}(3) . وفي مورد الطلاق : {وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْل مِّنْكُمْ}(4) .
والمستفاد منها ـ بعد دلالتها على اعتبار البيّنة في الموارد المذكورة ; ضرورة أنّ الاستشهاد إنّما هو لغرض الشهادة ، فلو لم تكن الشهادة حجّة ومعتبرة لما كان وجه للاستشهاد ، فلزوم إشهاد عدلين عند الطلاق لا ينفكّ عن اعتبار شهادتهما به بعداً ـ أنّ البيّنة حجّة شرعية قائمة مقام العلم في جميع الموارد والموضوعات ، من دون أن تكون خصوصية للموارد المذكورة .
هذا ، وقد ورد في الكتاب أيضاً آيات دالّة على وجوب تحمّل الشهادة ووجوب أدائها وحرمة كتمانها ; كقوله تعالى : {وَأَقِيمُوا الْشَّهَادَةَ لِلّهِ}(5) . وقوله تعالى : {وَلاَ يَأْبَ الْشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}(6) . وقوله تعالى : {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ}(7) ، وظاهرها بمقتضى الدلالة الالتزامية الحجّية والاعتبار كما عرفت ; لأنّه لا معنى للزوم التحمّل والأداء وحرمة الكتمان مع عدم وجوب التصديق ، وعدم لزوم القبول ، وترتيب الأثر .
- (1) سورة البقرة 2 : 282 .
(2) سورة المائدة 5 : 106 .
(3) سورة المائدة 5 : 95 .
(4، 5) سورة الطلاق 65 : 2 .
(6) سورة البقرة 2 : 282 .
(7) سورة البقرة 2 : 283 .
(الصفحة 489)
وبالجملة : لا يبقى لمن امعن النظر في موارد قبول شهادة العدلين ارتياب في أنّه لا خصوصية لتلك الموارد ، بل حجّيتها إنّما هي بنحو العموم والشمول لجميع الموضوعات إلاّ ما خرج بالدليل ، مثل الزنا واللواط(1) وغيرهما .
الخامس : سيرة العقلاء من جميع الملل وإن لم يكونوا متشرّعين بشريعة أصلا ; فإنّهم يرون شهادة شخصين موثّقين طريقاً مثبتاً إلى الموضوعات التي تترتّب عليها الأحكام العرفية والآثار العقلائيّة .
ويرد عليه : عدم انطباق هذا الدليل على المدّعى ; فإنّ المدّعى كما عرفت يعتبر فيه التعدّد والعدالة ، فإنّه المراد من البيّنة بالمعنى الاصطلاحي ، والدليل وهي سيرة العقلاء إنّما يكون موردها مطلق الشهادة ولو لم يكن من الشخصين ، كما أنّه لا يعتبر فيه العدالة بل يكفي مجرّد الوثاقة ، وسيأتي أنّ السيرة بهذا العرض الوسيع مردوعة عنها في الشريعة ، إلاّ أن يقال : إنّ الرّدع إنّما هو بالإضافة إلى قسم من مورد جريان السيرة . وامّا بالنسبة إلى ما كان مشتملا على التعدّد والعدالة فلم يتحقّق الردع ، بل كان الأخبار الكثيرة المتقدّمة بمنزلة الإمضاء له ، كما لايخفى .
السادس : أنّ الموضوعات لا ريب في كون أكثرها خفية على أكثر الناس ; بمعنى أنّ كلّ صنف من الناس وإن كان لهم التسلّط على معرفة صنف من الموضوعات ، لكنّ الغالب لا بصيرة له في الغالب ، فلو كانت الأحكام معلّقة على العلم بالموضوعات لزم تعطيل الأحكام غالباً ، ولزم الهرج والمرج ، فلابدّ من كون شيء معتبراً في الشرع في الموضوعات غير العلم ممّا يوجب الوثوق بها ، ولا قائل بما هو أزيد من البيّنة من شهادة ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو نحو ذلك . نعم ، في حجّية شهادة العدل الواحد كلام يأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى .
السّابع : لو دار ثبوت الموضوعات المترتّبة عليها الأحكام في الشريعة مدار
- (1) يراجع تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ، كتاب الحدود : 114 ـ 121 وص 288 ـ 293 .
(الصفحة 490)
حصول العلم لكلّ أحد ، لزم العسر والحرج الشديد المنفي بالنصّ والإجماع ، فكذا المقدّم ، فتثبت حجّية البيّنة بعدم القول بالفصل ; لأنّ كلّ من اعتبر ما سوى العلم فقد إعتبر البيّنة .
وهنا وجوه اُخر مذكورة لإثبات حجّية البيّنة في الموضوعات ، ولكن ملاحظة ما ذكرنا من الأدلّة وإن كان بعضها لا يخلو من المناقشة والنظر ، لا تبقي مجالا للارتياب في الحجّية المذكورة ، فلا وجه لما نسب إلى القاضي عبد العزيز بن البرّاج من عدم حجّية البيّنة في إثبات النجاسة(1) ، ولا لما نسب(2) إلى ظاهر السيّد في الذريعة(3) والمحقّق في المعارج(4) والمحقّق الثاني في الجعفريّة(5) وبعض آخر(6) من عدم ثبوت الاجتهاد بشهادة عدلين ; لعدم الدليل عليه .
وإن كان يمكن أن يكون الوجه في الأخير هو عدم كون الاجتهاد من الاُمور المحسوسة ، وحجّية البيّنة مقصورة على الاُمور المحسوسة ، كما أنّه يمكن أن يكون الوجه في الأوّل هو كون النجاسة أمراً مسبّبياً غير محسوس ، والبيّنة لابدّ وأن تكون في مورد أمر محسوس ، وسيأتي البحث عن ذلك في بعض المقامات الآتية إن شاء الله تعالى .
المقام الثاني : في مورد حجيّة البيّنة وسعة دائرتها وضيقها ، فنقول :
لا ريب في أنّ الموضوع الذي تكون البيّنة حجّة بالإضافة إليه لابدّ وأن يكون مترتّباً عليه أثر شرعيّ حتى يكون اعتبارها لأجل ترتّب ذلك الأثر عليه ، فكما
- (1) المهذّب : 1 / 30 .
(2) الناسب هو المحقّق النراقي في العوائد الأيّام : 811 ـ 812 .
(3) الذريعة إلى اُصول الشريعة : 2 / 325 .
(4) معارج الاُصول : 201 .
(5) الرسالة الجعفريّة ، المطبوع مع رسائل المحقّق الكركي : 1 / 80 .
(6) الوافية في اُصول الفقه : 299 .
(الصفحة 491)
أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب في الموضوعات الخارجية ترتّب الأثر الشرعي عليها ، فكذلك يعتبر في حجّية البيّنة ذلك ، فلو كان هناك موضوع لم يترتّب عليه حكم في الشريعة ، فلا مجال لاحتمال حجّية البيّنة فيه أصلا . وهذا ممّا لا شبهة فيه ، كما أنّه لا شبهة في أنّه إذا كان موضوع الأثر أمراً محسوساً كالماء والخلّ والخمر والكلب والخنزير وأشباهها ; لا شك في حجّية البيّنة فيه بعد القول باعتبار البيّنة في تمام الموارد من غير اختصاص بموارد خاصّة .
وأمّا إذا لم يكن موضوع الأثر أمراً محسوساً ، فتارة : تكون له آثار محسوسة بحيث يكون بينها وبين ذلك المشهود به ملازمة عرفيّة ، أو يكون لها أسباب مخصوصة محسوسة ، واُخرى : لا يكون كذلك ; بمعنى أنّه لا يكون له أثر محسوس ولا سبب مخصوص محسوس أيضاً .
فإن كان من قبيل الأوّل كالعدالة والاجتهاد والأعلميّة ونحوها في الصّورة الاُولى منه ، والنجاسة والزوجية والطلاق في الصورة الثّانية منه ، فالظّاهر حجّية البيّنة فيه أيضاً ; لأنّه وإن كانت كلمة «الشهادة» ظاهرة في الحضور والإخبار عن العين والعلم بإحدى الحواسّ الخمس ، وكذلك كلمة «البيّنة» ظاهرة في ما كان ظاهراً مشهوداً ; لأنّه صيغة مشبهة من «بان» بمعنى ظهر ، ومذكّرها «بّين» ، إلاّ أنّه إذا كان الموضوع الذي قام به البيّنة له أثر محسوس كالأمثلة المذكورة ، فحيث يكون بينه وبين أثره المحسوس ملازمة عرفية ، ففي الحقيقة يكون كأنّ المشهود به أمراً محسوساً .
وكذلك إذا كان له سبب محسوس كالأمثلة الاُخرى المذكورة أيضاً ، مضافاً إلى أنّ الشهادة بالمسبّب شهادة بالسبب ، بعد عدم انحصار دائرة الحجّية في الأمارات بخصوص المدلول المطابقي منها ، بل تسع دائرة الحجّية للوازم والملزومات والملازمات أيضاً .
(الصفحة 492)
وإن كان من قبيل الثاني ، فالظاهر أنّه لا دليل على حجّية البيّنة فيه ، لا من الآيات والروايات ولا من السيرة والإجماع وغيرهما .
أمّا الاُولى ; فلأنّه ـ مضافاً إلى أنّ لفظ الشهادة الوارد في كثير منهما لا ينطبق عليه ; لانّك عرفت أنّه من الشهود بمعنى الحضور ، وفي هذا الفرض ـ لا معنى لتحقّق الحضور بعد عدم خلوّ المشهود به من كونه محسوساً ، أو ثبوت أثر محسوس ، أو سبب محسوس له كما هو المفروض . وأمّا الثانية ; فلأنّ القدر المتيقّن من مثل السيرة والإجماع غير هذا الفرض ، فلا دليل على الحجيّة ، ومن المعلوم افتقارها إلى الدليل على ثبوتها .
المقام الثالث : كما أنّه يعتبر في مفهوم البيّنة ومعناها بحسب الاصطلاح التعدّد والعدالة ، فهل يعتبر فيه الرّجوليّة أيضاً ، فلا يطلق عنوانها على شهادة النساء أصلا ، ولو مع العدالة والتعدّد البالغ أربع نفرات ، وعليه : فيحتاج إثبات حجّية شهادة النساء إلى أدلّة اُخرى غير ما ذكرنا ، أو لا يعتبر فيه الرجولية ، بل شهادة أربع نساء بيّنة يشملها ما يدلّ على اعتبار البيّنة؟ فالثمرة تظهر فيما إذا لم يكن هناك دليل خاصّ على أحد الطرفين من الاعتبار وعدمه .
وبعبارة اُخرى : لا شبهة في اعتبار شهادة النساء منفردات في بعض الموارد ، ومنضـمّات إلى الرجال في بعض موارد اُخر ، وقد وقع التعرّض في كتاب الشهادات للموردين(1) ، كما أنّه لا شبهة في عدم اعتبارها في بعض الموارد لا منفردات ولا منضـمّات ، كثبوت الهلال والطلاق وغيرهما من الموارد ، إنّما الإشكال في موارد الخلوّ من الدليل الخاصّ . فإن قلنا بعموم لفظ البيّنة ، فمقتضى أدلّة حجّيتها حجّيتها أيضاً ، وإن قلنا بالعدم ، فلا دليل على اعتبارها مطلقاً .
- (1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ، كتاب القضاء والشهادات : 471 ـ 495 .