(الصفحة 50)
جدّه ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : لا يأخذ أحدكم متاع أخيه جادّاً ولا لاعباً ، من أخذ عصا أخيه فليردّها(1) .
وفي الاستدلال به ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم اختصاص مورد القاعدة بما إذا كانت اليد على المال غير مأذونة ; لشمولها لصورة الإذن ، غاية الأمر عدم كون الإتلاف مأذوناً فيه ـ أنّ غاية مفاده الحكم التكليفي وهو وجوب الردّ. وأمّا الضمان الذي هو حكم وضعي فلا .
وروى في المستدرك عن دعائم الإسلام روايات في هذا الباب :
منها : ما عن أبي عبد الله، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطب يوم النحر بمنى في حجّة الوداع وهو على ناقته العضباء ، فقال : أيّها الناس إنّي خشيت أنّي لا ألقاكم بعد موقفي هذا ، بعد عامي هذا ، فاسمعوا ما أقول لكم وانتفعوا به . ثمّ قال : أيّ يوم أعظم حرمة؟ قالوا هذا اليوم يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال : فأيّ الشهور أعظم حرمة؟ قالوا : هذا الشهر يارسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال : فأيّ بلد أعظم حرمة؟ قالوا : هذا البلد يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ،قال : فإنّ حرمة أموالكم عليكم وحرمة دمائكم كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، إلى أن تلقوا ربّكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا هل بلّغت؟ قالوا : نعم ، قال : اللّهمّ اشهد ، الحديث(2) .
ومنها : ما عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضاً ، أ نّه قال في حديث : فمن نال من رجل مسلم شيئاً من عرض أو مال وجب عليه الاستحلال من ذلك والتنصّل من كلّ ما كان منه إليه ، وإن كان قد مات فليتنصّل من المال إلى ورثته ، وليتب إلى الله ممّا أتى
- (1) المبسوط : 3 / 59 ، سنن الترمذي : 4 / 462 ح 2165 ، السنن الكبرى للبيهقي : 8 / 505 ح 11739 ، شرح السنة : 10 / 264 ح 2572 ، كنز العمال : 10 / 367 ح 30341 .
(2) دعائم الإسلام : 2 / 484 ح 1729 ، وعنه مستدرك الوسائل : 17 / 87 ، كتاب الغصب ب 1 ح 1 .
(الصفحة 51)
إليه حتى يطلع الله ـ عزّ وجلّ ـ عليه بالنّدم والتوبة والتنصّل ، ثمّ قال : ولست آخذ بتأويل الوعيد في أموال الناس ولكنّي أرى أن تؤدّى إليهم إن كانت قائمة في يدي من اغتصبها ويتنصّل إليهم منها ، وإن فوّتها المُغتصِب أعطى العوض منها ، فإن لم يعرف أهلها تصدّق بها عنهم على الفقراء والمساكين ، وتاب إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ ممّا فعل(1) .
ومنها : ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قضى فيمن قتل دابّة عبثاً ، أو قطع شجراً ، أو أفسد زرعاً ، أو هدم بيتاً ، أو عوَّر بئراً أو نهراً ، أن يغرم قيمة ما أفسد واستهلك ، ويضرب جلدات نكالا ، وإن أخطأ ولم يتعمّد ذلك فعليه الغرم ولا حبس عليه ولا أدب ، وما أصاب من بهيمة فعليه ما نقص من ثمنها(2) .
ودلالة هذه الروايات وإن كانت مخدوشة بالإضافة إلى أكثرها ، إلاّ أنّ ملاحظة المجموع ـ مع الأدلّة المتقدّمة ، ومع كون القاعدة متّفقاً عليها ـ لا تبقي ريباً في ثبوتها ولا شكّاً في تحقّقها ، ولأجله لا حاجة إلى التطويل بذكر سائر المدارك ، كما لا يخفى .
الجهة الثانية : في بيان المراد من ألفاظ هذه القاعدة ، فنقول :
أمّا الإتلاف المضاف إلى المال ، فالظاهر أنّ المراد منه هو الإفناء والإهلاك المتعلّق بذات المال ، بأن أخرجه عن صفحة الوجود وأفناه بالمرّة بحيث لم يكن هناك شيء يشار إليه بأنّه مال الغير .
وأمّا إذا تعلّق الإفناء لا بذات المال ونفسه ، بل بماليّته مع بقاء ذاته ; كما لو غصب الثلج في الصيف فأبقاه إلى الشتاء ، فردّه فيه مع أنّه لا مالية له في الشتاء ; أي لا يبذل بإزائه المال فيه ، فالظاهر عدم شمول القاعدة له ; سواء كانت بهذه العبارة
- (1) دعائم الإسلام : 2 / 485 ح 1731 ، وعنه مستدرك الوسائل : 17 / 87 ، كتاب الغصب ب 1 ح 2 .
(2) دعائم الإسلام : 2 / 424 ح 1476 ، وعنه مستدرك الوسائل : 17 / 95 ، كتاب الغصب ب9 ح6 .
(الصفحة 52)
المعروفة أو بمثل ما في بعض الروايات المتقدّمة من أنّ «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ، فإنّ التعبير الثاني أيضاً لا يقتضي الضمان بعد بقاء المال بذاته ، وإن عرض له الفناء والهلاك بملاحظة ماليّته ، إلاّ أن يستفاد حكمه من مثل قوله تعالى : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}(1) نظراً إلى أنّ إفناء المالية اعتداء لا محالة .
وأمّا المال المضاف إليه الإتلاف ، فالظاهر أنّ المراد به هو المال في الآية الشريفة ; وهي قوله تعالى : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}(2) . وهو عبارة عن كلّ شيء يكون مطلوباً ومرغوباً عند الناس لاجل قضاء حوائجهم به ، ودخيلا في معاشهم أو شيء يحصل مطلوبهم به .
فالأوّل : كالمأكولات والمشروبات والملبوسات والمساكن والمراكب ومثلها ، من دون فرق بين ما إذا كان من قبيل الجواهر الموجودة لا في موضوع ، أو من قبيل الأعراض التي تسمّى في الاصطلاح بالمنافع ; كركوب الدابّة وسكنى الدّار والتزيّن بالذهب والفضّة والأحجار الكريمة ، من دون فرق بين أن يكون الاحتياج إليه نوعاً أو في خصوص بعض الحالات ; كالأدوية التي يعالج بها المريض ، وكالآلات المحتاج إليها في دفن الأموات .
والثاني : كالأوراق الماليّة الموجودة في هذه الأزمنة التي لها دخل في تحصيل ما يرفع الحوائج بها ، فإنّها أيضاً مال ، غاية الأمر ان ماليّتها امر اعتباري يدور مداره ، فمادام الاعتبار مستظهراً به يكون اتصافه بالمالية محفوظاً ، وأمّا تعريف المال بأنّه ما يبذل بإزائه المال ، فهو وإن كان شاملا لجميع ما ذكرنا ، إلاّ أنّه لا خفاء في كونه تعريفاً دوريّاً .
- (1) سورة البقرة 2: 194.
(2) سورة الكهف 18 : 46 .
(الصفحة 53)
وأمّا الضمان المأخوذ في القاعدة ، فحيث يكون المفروض فيها صورة الإتلاف ، ويكون مرجع ضمان المال المتلف إلى كونه في عهدته ، يجب الخروج عنها بأداء المثل في المثليّات والقيمة في القيميات ، ولا مجال للضمان المعاوضي هنا بعد عدم وجود معاوضة في البين ، بل الضمان هو الضمان الحقيقي الذي هو عبارة عن ضمان المثل أو القيمة .
وقد عرفت أنّ الضمان في القاعدة مقيّد بصورة عدم الإذن ، ومرّ أيضاً أنّ المراد هو عدم الإذن في الإتلاف ، من دون فرق بين ما إذا كانت يده على مال الغير على تقدير ثبوت اليد يداً عادية أو غير مأذونة ، وبين ما إذا كانت يداً مأذونة ; كالأمين في صورة التعدّي والتفريط على ما تقدّم(1) .
الجهة الثالثة : أنّ الإتلاف قد يكون بالمباشرة، وقد يكون بالتسبيب .
فالأوّل : مثل أن يأكل مال الغير الذي يكون من المأكولات ، أو أن يشرب ماله الذي يكون من المشروبات ، أو يحرق أثوابه ، أو يرمي حيوانه بسهم فيهلكه ، وشبه ذلك ممّا يصدر عنه فناء مال الغير وهلاكه عن نفسه وإرادته ، من دون وساطة فاعل آخر .
والثاني : عبارة عن كلّ فعل صار سبباً لوقوع التلف ، بحيث لو لم يكن لم يتحقّق التلف ، ولكنّه لم يكن علّة تامّة ولا جزءاً أخيراً من العلّة التامّة، وعليه : فهو الذي لا يلزم من وجوده الوجود ، ولكن يلزم من عدمه العدم .
لا خفاء في أنّ القدر المتيقّن من مورد القاعدة الذي لا شبهة في ثبوت الضمان فيه هو القسم الأوّل الذي يكون الإتلاف فيه بالمباشرة .
وأمّا القسم الثاني : فقد ادّعى في محكي الجواهر نفي الخلاف فيه(2) ، بل ربما
- (1) في ص 28 .
(2) جواهر الكلام : 37 / 46 .
(الصفحة 54)
يقال بأنّه يمكن تحصيل الإجماع على كونه موجباً للضمان ، ولكن لابدّ من ملاحظة الأخبار بعد إمكان القول بكفاية التسبيب في صحّة اسناد الإتلاف فإنّه إذا فرض أنّ مع عدمه لم يكن يتحقّق التلف بوجه ، والمفروض كونه فعله من دون واسطة يتحقّق الإتلاف الحقيقي المضاف إلى من تحقّق منه الإتلاف بالتسبيب، فتدبّر ; فإنّ ذلك لا يتمّ في جميع موارد التسبيب كما سيأتي .
أمّا الرّوايات :
فمنها : صحيحة الحلبي ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن الشيء يوضع على الطّريق فتمرّ الدابّة فتنفر بصاحبها فتعقره؟ فقال : كلّ شيء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه(1) .
ومنها : صحيحة زرارة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قلت له : رجل حفر بئراً في غير ملكه ، فمرّ عليها رجل فوقع فيها ، فقال (عليه السلام) : عليه الضمان ; لأنّ كلّ من حفر في غير ملكه كان عليه الضّمان(2) .
ومنها : موثقة سماعة قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يحفر البئر في داره أو في ملكه (أرضه)؟ فقال : ما كان حفر في داره أو في ملكه فليس عليه ضمان ، وما حفر في الطريق أو في غير ملكه فهو ضامن لما يسقط فيها(3) .
ومنها : رواية السكوني ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من أخرج ميزاباً ، أو كنيفاً ، أو أوتد وتداً ، أو أوثق دابّة ، أو حفر شيئاً في طريق
- (1) الكافي : 7 / 349 ح 2 ، تهذيب الأحكام : 10 / 223 ح 878 ، الفقيه : 4 / 115 ح 396 ، وعنها وسائل الشيعة 29/ 243 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 9 ح 1 .
(2) الكافي : 7 / 350 ح 7 ، تهذيب الأحكام : 10 / 230 ح 907 ، وعنهما وسائل الشيعة : 29 / 241 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 8 ح 1 .
(3) الكافي : 7 / 350 ح 4 و ص 349 ح 1 ، تهذيب الأحكام : 10 / 229 ـ 230 ح 903 و 904 ، الفقيه : 4 / 114 ح 390 ، وعنها وسائل الشيعة : 29 / 241 ـ 242 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 8 ح 3 .