(الصفحة 512)
وأنّها تثبت أنّ اللحم مذكّى ، يكون من قبيل الأكل من القفا .
وأمّا قوله (عليه السلام) في خبر إسماعيل بن عيسى قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال : عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه(1) لا يدلّ على عدم اعتبار السّوق بالإضافة إلى كشفه عن التذكية ، نظراً إلى أنّه لو كان السّوق كاشفاً ، فلا معنى للسؤال إذا رأوا أنّ المشركين يبيعونه ، وأيضاً لم يكن معنى لتعليق عدم السؤال على صلاتهم فيه .
وذلك ـ أي وجه عدم الدّلالة ـ أنّ كلامه (عليه السلام) ظاهر في أنّ السّوق أمارة على التذكية فيما كان السوق مخصوصاً بالمسلمين . وأمّا لو كان السوق مشتركاً أو كان مخصوصاً بالمشركين ، فعند ذلك يجب عليكم المسألة والفحص ، ولا أثر لكون البائع وحده في ذلك السوق مسلماً في عدم وجوب السؤال . وعليه : فيمكن أن تعدّ هذه الرواية شاهدة على أنّ دلالة السوق إذا كان مخصوصاً بالمسلمين أهمّ من دلالة يد المسلم ، خصوصاً إذا كان ذلك المسلم في السوق المخصوص بالكفّار ، بل وفي السوق المشترك أيضاً .
وأمّا قوله (عليه السلام) بعد ذلك : «وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه» ، فمن جهة أنّ صلاتهم فيه بمنزلة شهادتهم عملا بأنّه مذكّى ، فهو أيضاً طريق إلى أنّه صار مذكّى ، إلى آخر ما ذكره من المؤيّدات ; لكون سوق المسلم بنفسه طريقاً إلى أنّه مذكّى(2) .
أقول : الظاهر عدم كون سوق المسلمين أمارة على التذكية مستقلاًّ في قبال يد
- (1) تهذيب الأحكام : 2 / 371 ح 1544 ، الفقيه : 1 / 167 ح 788 ، وعنهما وسائل الشيعة : 3 / 492 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ب 50 ح 7 .
(2) القواعد الفقهيّة : 4 / 160 ـ 165 .
(الصفحة 513)
المسلم ، بحيث لو كان البائع في سوق المسلمين محرز الإسلام كان هناك أمارتان على التذكية : السوق ، ويد المسلم . وما أفاده من الوجه في ذلك غير تامّ ; لأنّ سيرة المتديّنين على معاملة ما تقع عليه المعاملة في سوق المسلمين معاملة المذكّى ، لا دليل على أنّ وجهها كون السوق والتعاطي بالبيع والشراء فيه أمارة على التذكية مستقلاًّ ، بل يحتمل قويّاً أن يكون الوجه فيها ما ذكرنا ، خصوصاً مع أنّ السّوق بنفسه لا يكون كاشفاً وأمارة عليها ; فإنّ المهمّ في ذلك هو البائع ، وإلاّ فمع قطع النظر عنه لا يكون مجرّد سوق المسلمين كاشفاً عنها بوجه ، كما لا يخفى .
وأمّا قوله (عليه السلام) : «أنا أشتري الخفّ من السوق . . .» فهو وإن كان المراد من المسألة غير اللازمة فيه هي التفحّص والتفتيش عن كونه مذكّى أو غير مذكّى ، إلاّ أنّ دلالته على هذا التقدير على اعتبار السّوق بنفسه ممنوعة ; فإنّه حيث لا دليل على اعتبار إسلام البائع ولا كاشف عنه ، جعل الشارع الغلبة معتبرة وكاشفة عن إسلام البائع الذي هو الطريق إلى التذكية والأمارة عليها ، ولم يعلم وجه كونه أكلا من القفا .
وأمّا خبر إسماعيل ، فمع أنّه مضطرب المتن ـ لأنّه بعد كون مفروض السؤال هو ما إذا كان البائع مسلماً ، غاية الأمر كونه غير عارف لا يلائم الجواب بأنّه «إذا رأيتم المشركين . . .» إلاّ أن يكون المراد منه بيان المفهوم ; وهو اختصاص وجوب السؤال بما إذا كان البائع مشركاً ـ يكون مفاده ملاحظة حال البائع ، وأنّه إذا كان مشركاً تجب المسألة ، وإذا كان مسلماً ـ والكاشف عنه هي صلاته فيه ـ لا تجب المسألة ، وبقرينة الروايات الاُخر يستفاد عدم كون السوق المذكور في السؤال سوق المسلمين ، وإلاّ لا يحتاج إلى الصلاة فيه ; سواء كان سوق المسلمين أمارة بنفسه أو أمارة على الأمارة .
وبالجملة : لم يثبت أنّ الشارع جعل للتذكية طريقين : سوق المسلمين ، ويد
(الصفحة 514)
المسلم ، بل الظاهر أنّ الثاني أمارة عليها ، والأوّل أمارة على الثاني .
المقام الرّابع : أنّه لا فرق في المسلم الذي يؤخذ من يده ويكون السوق أمارة على إسلامه ، بين من كان عارفاً بالإمامة ، ومن لم يكن ; لأنّه ـ مضافاً إلى كون أكثر المسلمين في تلك الأزمنة غير عارفين ، وإلى أنّ الجمع المحلّى باللاّم في «المسلمين» الذي اُضيف إليه «السوق» في رواية الفضلاء المتقدّمة يقتضي العموم لكلّ مسلم على ما هو المشهور(1) ـ يدلّ عليه رواية إسماعيل بن عيسى قال :
سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف ؟ قال : عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه(2) .
وعليه : فالحكم باعتبار يد المسلم ليس لكونها أمارة شرعيّة على كون الحيوان مذكّى بالتذكية المعتبرة عند العارف ; وذلك لاختلافنا معهم في بعض الاُمور المعتبرة في التذكية ، كاجتزائهم في الصيد بإرسال غير الكلب المعلّم(3) ، وكذلك في بعض الفروع ، كحكمهم بطهارة جلد الميتة بالدباغ(4) ، وبطهارة ذبائح أهل الكتاب(5) ، وغير ذلك من الموارد ، فلا يكون مجرّد كونه في يده أو مع ترتيبه
- (1) كفاية الاُصول : 254 ، فوائد الاُصول : 1 / 515 ، أجود التقريرات : 2 / 295 ـ 299 ، نهاية الأفكار : 2 / 510 ، محاضرات في اُصول الفقه : 5 / 159 ، مناهج الوصول : 2 / 230 .
(2) تقدم في ص 512 .
(3) البيان في مذهب الشافعي : 4 / 535 ، بدائع الصنائع : 4 / 177 ، المغني لابن قدامة : 11 /11 ، المجموع شرح المهذّب : 9 / 88 .
(4) البيان في فقه الشافعي : 1 / 69 ـ 70 ، بدائع الصنائع : 1 / 243 ـ 245 ، المغني لابن قدامة : 1 / 55 ـ 56 ، المجموع شرح المهذّب : 1 / 268 ـ 280 .
(5) البيان في فقه الشافعي : 4 / 526 ـ 529 ، بدائع الصنائع : 4 / 164 ـ 165 ، المغني لابن قدامة : 11 / 35 ، المجموع شرح المهذّب : 9 / 75 ، الشرح الكبير : 11 / 46 .
(الصفحة 515)
آثار المذكّى عليه أمارة على وقوع التذكية المعتبرة عندنا عليه .
فالحكم باعتبار يد المسلم حينئذ ليس لأماريتها ، بل لأجل أنّ الحكم بعدم الاعتبار ـ مع أنّ الغالب في تلك الأزمنة هو كون المسلمين غير عارفين ـ مستلزم للعسر ، فلذا جعل الشارع الأصل في الحيوان التذكية تعبّداً فيما إذا لم يكن بائعه مشركاً .
وأمّا ما أفاده المحقّق البجنوردي (قدس سره) من أنّ كونه أصلا غير تنزيلي أمر لا ينبغي أن يحتمل ; لأنّه لو كان أصلا غير تنزيلي لكانت أصالة عدم التذكية حاكمة عليه ، وكان لا يبقى مورد لجريانه ، كما هو الشأن في كل أصل حاكم مع محكومه(1) .
فيرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ جريان أصالة عدم التذكية محلّ خلاف وإشكال ـ : أنّه على هذا التقدير تكون الحكومة ممنوعة ، بل تكون أدلّة اعتبار السّوق مخصّصة لدليل اعتبار الاستصحاب ، وقاضية بعدم جريان أصالة عدم التذكية في مورد جريان أدلّة اعتبار السّوق .
وقد استدلّ هو على الأماريّة بأنّ قيام السيرة على دخول المتديّنين في الأسواق الإسلامية وشرائهم مشكوك التذكية ، ومعاملتهم معه معاملة المزكّى ـ مع أنّهم يرون أنّ الصلاة في غير المذكّى ليست بجائزة ـ دليل على أنّهم يرون أسواق المسلمين طريقاً وكاشفاً عن كونه مذكّى ; لأنّ الأماريّة متقوّمة بأمرين :
أحدهما : كون ذلك الشيء فيه جهة كشف عن مؤدّاه ولو كان كشفاً ناقصاً .
ثانيهما : كون نظر الجاعل في مقام جعل الحجّية إلى تلك الجهة من الكشف الموجود فيه في حدّ نفسه ، فالأماريّة متوقّفة على أن يكون جعل حجّيته بلحاظ تتميم ذلك الكشف الناقص الموجود فيه تكويناً في عالم التشريع والاعتبار ، ومن المعلوم في المقام وجود كلا الأمرين ; لأنّه لا شك في كون اللحم أو الجلد المشترى
- (1) القواعد الفقهيّة : 4 / 165 .
(الصفحة 516)
في سوق المسلمين فيه جهة كشف عن أنّه مذكّى ; لأنّهم غالباً لا يقدمون على بيع لحم الميتة أو جلدها ، كما أنّه لا شك في أنّ سيرة المتديّنين على دخولهم الأسواق واشترائهم اللحوم والجلود باللحاظ المذكور ، وسيرة المتديّنين لا تحتاج إلى الإمضاء ; فإنّها كاشف مثل الإجماع عن موافقته لرأي المعصوم (عليه السلام) (1) .
ويظهر الجواب عن هذا الدليل ممّا ذكرنا من أنّ شمول أدلّة اعتبار السوق لسوق المسلمين غير العارفين ـ مع وضوح اختلافنا معهم في بعض الاُمور المعتبرة في التذكية ـ يكشف عن عدم الأماريّة ; لأنّ المسلمين غالباً لا يقدمون على بيع لحم ما هو ميتة بنظرهم ولا جلده ، لا بيع لحم ما هو ميتة بنظر الإماميّة العارفين بالإمامة ، كما لايخفى .
وعليه : فالأمر الأوّل من الأمرين اللذين يتقوّم بهما حجّية الأمارة غير متحقّق في المقام ; لعدم وجود الكشف ولو بنحو ناقص على ما عرفت .
وأمّا الرّوايات ، فسيأتي البحث عنها في المقامات الآتية إن شاء الله تعالى .
المقام الخامس : أنّه يستفاد من بعض الروايات الواردة في السّوق اعتبار ضمان البائع وإخباره بكون مبيعه مذكّى ، وهي رواية محمد بن الحسين الأشعري قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) : ما تقول في الفرو يشترى من السّوق؟ فقال : إذا كان مضموناً فلا بأس(2) .
ولكنّ الظاهر أنّه يتعيّن حملها على الاستحباب بقرينة رواية الفضلاء الدالّة على النهي عن السّؤال عنه(3) ; فإنّ المراد من النهي هو عدم الوجوب ; لأنّه في مقام توهّمه ، فالمراد عدم وجوب السؤال ، ومن الواضح أنّ المراد من السؤال هو السؤال
- (1) القواعد الفقهيّة : 4 / 165 ـ 167 .
(2) الكافي : 3 / 398 ح 7 ، وعنه وسائل الشيعة : 3 / 493 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ب 50 ح 10 .
(3) تقدمت في ص 508 .