(الصفحة 518)
دليل الاعتبار ، لا من جهة اللفظ ولا من ناحية ترك الاستفصال :
أمّا الأوّل : فلكونها قضايا خارجية وردت في محلّ الحاجة ; وهي الجواب عمّا وقع عنه السؤال من الأيدي والأسواق الخارجية في تلك الأزمنة ، وليست من قبيل القضايا الحقيقية التي حكم فيها بالأفراد مطلقاً ولو كانت مقدّرة الوجود غير محقّقة ، ومن المعلوم أنّ مثل ذلك لا إطلاق لها ، ولذا لا تكون متعارفة في العلوم ، ولا يكون شأن العلوم هو البحث عنها ; لكونها في قوّة الجزئية ، وإن كانت مسوّرة بكلمة «كلّ» مثل : كلّ من في البلد مات .
وأمّا الثاني : فلأنّ منشأ الشك في كون المأخوذ مذكّى هو غلبة العامّة على أسواق المسلمين ، لا كون أيديهم مسبوقة بأيدي الكفّار ; إذ لم يكن جلب الجلود من بلاد الشرك معمولا في ذلك الزمان ، وإنّما هو أمر حدث في هذه الأعصار ، فهذه الجهة مغفول عنها بالكلية عند أذهان السّائلين ، وفي مثله لا مجال لترك الاستفصال وجعله دليلا على الإطلاق ; لظهور الحال .
ويمكن الإيراد عليه ـ مضافاً إلى منع كون أدلّة اعتبار السّوق بأجمعها قضايا خارجية ، فإنّ مثل حكم الإمام (عليه السلام) في رواية الفضلاء المتقدّمة بجواز الأكل إذا كان ذلك في سوق المسلمين قضيّة حقيقيّة يكون موضوعها سوق المسلم أعمّ من الأفراد المتحقّقة والمقدّرة ، ولذا لا نحتاج في التمسك به إلى دليل الاشتراك من ضرورة أو إجماع ـ بأنّه لو سلّم كون ذلك على نحو القضايا الخارجية ، نقول : منشأ الشك في كون المأخوذ مذكّى لا ينحصر بغلبة العامّة على أسواق المسلمين ، بل كما اعترف به قبل ذلك ربما كان المنشأ اختلاط أهل الذمّة بالمسلمين من اليهود والنصارى وغيرهما المقيمين في البلاد الإسلامية .
ومن الواضح أنّ هذه الجهة لا تكون بمثابة موجبة للغفلة عنها ، خصوصاً مع التصريح في رواية إسماعيل المتقدّمة ، بأنّه إذا «رأيتم المشركين يبيعون . . .» حيث
(الصفحة 519)
فرض كون البائع مشركاً ، بل لو بني على كفر الخوارج والنواصب والغلاة يتحقّق منشأ آخر ; لتداول ذبحهم للحيوانات وأكلهم لها وبيع جلودها ، فاحتمال سبق يد الكافر على يد المسلم من الاحتمالات العقلائية غير المغفول عنها في مورد الروايات ، وعليه : فلا مانع من استكشاف الإطلاق من جهة ترك الاستفصال ، فتدبّر .
المقام الثامن : المشهور أنّ يد المسلم أمارة على التذكية مطلقاً ، حتى مع العلم بكونه مستحلاًّ للميتة بالدباغ(1) ، وقيل باختصاص الأماريّة بما إذا علم بكونه غير مستحلّ لها به(2) . وعن جملة من الكتب كالمنتهى(3) ونهاية(4) الإحكام التفصيل بين ما لم يعلم باستحلاله فتكون يده أمارة ، وما علم بكونه مستحلا فلا تكون كذلك .
وهنا قول رابع ; وهو التفصيل بين ما إذا أخبر بالتذكية ولو كان مستحلاًّ ، وبين ما إذا لم يخبر بها ، فتكون يده أمارة في الأوّل دون الثاني(5) .
ويدلّ على المشهور المطلقات المتقدّمة في السّوق الناظرة إلى هذه الجهة ; وهي كون المسلم غير عارف مستحلاًّ للميتة نوعاً ، وهي كالصريحة في الشمول لذلك ، خصوصاً بعد ملاحظة كون منشأ الشك للسائل الباعث له على السؤال ذلك . ومرسلة ابن الجهم المتقدّمة ناظرة إلى هذه الجهة ، وأنّ الضيق الواقع فيه السائل وحكمه (عليه السلام) بأنّه يرغب عمّا كان يفعله إمامه (عليه السلام) ، إنّما هو لأجل ذلك ، مضافاً إلى التصريح بعدم اعتبار المعرفة بالإمامة في رواية إسماعيل المتقدّمة .
فالإنصاف أنّه مع ملاحظة الروايات والتأمّل فيها لا يبقى ارتياب في أنّ
- (1) روض الجنان : 2 / 570 ، جواهر الكلام : 6 / 346 ، مستمسك العروة الوثقى : 1 / 330 .
(2) تذكرة الفقهاء : 2 / 464 ، حاشية الشرائع للمحقّق الثاني : 1 / 201 ، مسالك الأفهام : 1 / 285 .
(3) منتهى المطالب : 4 / 204 ـ 206 .
(4) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام : 1 / 373 .
(5) ذكرى الشيعة : 3 / 29 ، الدروس الشرعيّة : 1 / 149 ـ 150 .
(الصفحة 520)
أماريّة يد المسلم أمارية تعبديّة مجعولة لغرض التسهيل والتوسعة ، وعمدة النظر فيها كون البائع مسلماً غير عارف ، خصوصاً في زمن الصادقين (عليهما السلام) الذي شاع فيه فتوى أبي حنيفة واستحلاله للميتة وكثر متابعوه(1) ، ومع ذلك حكم في الروايات بالأماريّة والاعتبار .
هذا ، ولكن قد عرفت في بعض المقامات السابقة أنّ الظّاهر أن يجعل الحكم بذلك في الروايات دليلا على عدم كون يد المسلم أمارة أصلا ; لعدم وجود الكشف فيها ولو بالنحو الناقص ، بل المجعول إنّما هو أصل تعبّدي لغرض التسهيل والتوسعة ، فجعل ذلك دليلا على عدم الأماريّة أولى من الحكم بثبوت الأمارية بنحو الإطلاق ، كما لا يخفى .
وأمّا القول الثاني : فيدلّ عليه رواية أبي بصير قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الصلاة في الفراء؟ فقال : كان علي بن الحسين (عليهما السلام) رجلا صرداً(2) لا تدفأه فراء الحجاز ; لأنّ دباغها بالقرظ(3) ، فكان يبعث إلى العراق ، فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه ، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه ، فكان يسأل عن ذلك؟ فقال : إنّ أهل العراق يستحلّون لباس جلود الميتة ، ويزعمون أنّ دباغه زكاته(4) .
وتقريب الاستدلال بها : أنّ موردها صورة الشك في كون البائع مستحلاًّ ; لظهور عدم اعتماده (عليه السلام) في هذه الجهة على علم الغيب الثابت له ، ومن الواضح عدم
- (1) بدائع الصنائع : 1 / 243 ـ 245 ، المغني لابن قدامة : 1 / 55 ، المجموع : 1 / 268 ـ 280 .
(2) الصرد : بفتح الصاد وكسر الراء المهملة : من يجد البرد سريعاً . مجمع البحرين .
(3) القرظ : بالتحريك ورق السلم يدبغ به الأديم . وفي الخبر : اُتي بهديّة في أديم مقروظ ; أي مدبوغ بالقرض . مجمع البحرين .
(4) الكافي : 3 / 397 ح 2 ، وعنه وسائل الشيعة : 4 / 462 ، كتاب الصلاة ، أبواب لباس المصلّي ب 61 ح 2 .
(الصفحة 521)
كون جميع أهل العراق مستحلّين ، بل كان فيهم من المسملين العارفين أيضاً ، فالرواية ناظرة إلى صورة الشك وحاكمة بعدم جواز الاعتماد على يده ; لأنّه (عليه السلام) كان يلقي في حال الصلاة الفرو المأتيّ إليه من العراق ، وكذا يلقي القميص الذي يليه ، فالرواية دالّة على عدم الأماريّة مع الشّك .
ويرد على الاستدلال بها ـ مضافاً إلى ضعف السند ـ : إجمالها من حيث الدلالة ; لأنّه (عليه السلام) كان يجمع ـ على طبق الرواية ـ بين اللبس والانتفاع ، وبين الإلقاء المذكور ، مع أنّه على تقدير عدم الأمارية لا يجوز الانتفاع به أصلا ولو في غير حال الصلاة . ودعوى كون لبسه إنّما هو لأجل الضرورة المسوّغة له ، كما يشعر به قوله (عليه السلام) : «كان رجلا صرداً» ، أي : شديد التألّم من البرد ، وعدم كون فراء الحجاز دافئاً ، مدفوعة بوضوح عدم كون الضرورة بالغة إلى حدّ يجوز معه المحرّم .
ودعوى الفرق بين اللبس ، وبين الصلاة لأجل نفس هذه الرّواية ، كما ربما نسب إلى إشعار بعض الكتب(1) ، مدفوعة ـ مضافاً إلى كونها خلاف الإجماع(2) ـ بأنّها توجب عدم انطباق الدليل على المدّعى ، فالإنصاف إجمال الرواية من حيث الدّلالة ، ولا يرفعه احتمال كون الإلقاء احتياطاً من الإمام (عليه السلام) في حال الصلاة وإن كان هذا الاحتمال مخالفاً لمدّعى المستدلّ ، إلاّ أنّه في نفسه لا يكون صحيحاً ; لعدم انحصار احتياط الإمام (عليه السلام) بالصلاة ، كما لا يخفى .
هذا كلّه مضافاً إلى مخالفة الرواية للمطلقات المتقدّمة الدالّة على الاعتبار مع العلم بالاستحلال فضلا عن الشك ، كما عرفت .
وأمّا القول الثالث : فعمدة الدليل عليه ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّي أدخل سوق المسلمين ـ أعني هذا الخلق الذين يدّعون
- (1) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 326 ، نهاية التقرير : 1 / 301 ـ 302 .
(2) لم نعثر عليه عاجلاً.
(الصفحة 522)
الإسلام ـ فأشتري منهم الفراء للتجارة ، فأقول لصاحبها : أليس هي ذكيّة؟ فيقول : بلى ، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنّها ذكية؟ فقال : لا ، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول : قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنّها ذكيّة ، قلت : وما أفسد ذلك؟ قال استحلال أهل العراق للميتة ، وزعموا أنّ دباغ جلد الميتة ذكاته ، ثمّ لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلاّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1) .
فإنّ موردها صورة العلم بكون البائع مستحلاًّ ، وحينئذ فالحكم بعدم جواز البيع بشرط التذكية دليل على عدم اعتبار يده وعدم كونها حجّة عليها ، وإلاّ فلا وجه لعدم جواز البيع كذلك ، كما هو ظاهر .
ويرد عليه : أنّه لو لم تكن يده حجّة عليها ، فلِمَ كان الاشتراء منه جائزاً ، كما هو المفروغ عنه عند السّائل ، وقد قرّره الإمام (عليه السلام) على ذلك؟ فالحكم بالجواز دليل على وجود الحجة . وأمّا عدم جواز الاشتراط فليس لأجل عدم ثبوت الحجّة ، بل إنّما هو لأجل كون مثلها غير كاف في ذلك ; لظهور الاشتراط في ثبوت التذكية وجداناً وعدم كفاية إحرازها ولو كانت أمارة كما في سائر الشرائط ، وكما في مثل الشهادة بناءً على عدم جواز الاستناد فيها إلى الأمارة .
نعم ، يبقى الإشكال في أنّ مقتضى ما ذكرنا عدم جواز الاشتراط ولو لم يكن البائع مستحلاًّ ، مع أنّ مقتضى ذيل الرّواية أنّ الموجب لعدم جواز الاشتراط استحلال البائع الأوّل للميتة ، فتدبّر .
وأمّا القول الرابع : فقد استدلّ له برواية محمد بن الحسين الأشعري قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) : ما تقول في الفرو يشترى من السّوق؟
- (1) الكافي : 3 / 398 ح 5 ، تهذيب الأحكام : 2 / 204 ح 798 ، وعنهما وسائل الشيعة : 3 / 503 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ب 61 ح 4 .