(الصفحة 533)
للفاعل حتى يصحّ نقله إلى الغير ; لأنّه يصير حينئذ مستحقّاً لله تعالى ، والمملوك المستحق لا يستحق ثانياً ، ألا ترى أنّه إذا آجر نفسه لدفن الميّت لشخص ، لم يجز له أن يؤجر نفسه ثانياً من شخص آخر لذلك العمل ، وليس ذلك إلاّ لأنّ الفعل صار مملوكاً للأوّل ومستحقّاً له ، فلا معنى لتمليكه ثانياً .
أقول : هذا الوجه هو أقوى الوجوه التي استدلّ بها في جامع المقاصد(1)وكشف الغطاء(2) ، ولو تمّ لكان مقتضاه القول بعدم الجواز مطلقاً . نعم ، ظاهره الاختصاص بالواجب العيني .
ويمكن تقريره في الواجب الكفائي ; بأن يقال : إنّ العمل قبل صدوره من العامل وإن لم يكن مملوكاً له تعالى ; لأنّ المفروض عدم تعيّنه عليه ، إلاّ أنّه بعد الصّدور يتّصف بكونه مملوكاً له تعالى ; بمعنى أنّه صدر ما يكون بعد الصدور غير مملوك إلاّ لله ، فلا يمكن أن تتعلّق به الإجارة المقتضية لكون العمل صادراً مملوكاً للمستأجر ، كما لا يخفى .
ولكن أصل الوجه لا يخلو عن خدشة بل منع ; فإنّ الوجوب الذي هو بمعنى مجرّد بعث الغير إلى إتيان الفعل ، لا يوجب أن يكون ذلك الفعل مملوكاً للباعث ومستحقاً له ، بحيث ينافي مملوكية الغير ; لأنّ مطلوبية الصدور وتحريك المأمور إلى الإصدار أمر ، ومملوكية الفعل الصّادر واستحقاقه أمر آخر لا يرتبط أحدهما بالآخر ، ولو كان الوجوب مساوقاً للملكية لما صحّ أمر أحد الأبوين بشيء بعد أمر الآخر به ; لأنّه إذا قال الأب مثلا : «أكرم زيداً» ، فمقتضى وجوب إطاعته الثابت بالشرع وكونه مساوقاً للملكية على ما هو المفروض ، هي صيرورة العمل ـ
- (1) لم نجده في جامع المقاصد عاجلاً.
(2) شرح القواعد ، كتاب المتاجر لصاحب كشف الغطاء : 1 / 279 ـ 283 ، وعنه الشيخ الأنصاري في المكاسب : 2 / 130 .
(الصفحة 534)
وهو إكرام زيد ـ مملوكاً للأب ومستحقّاً له ، وحينئذ فكيف يمكن أن يؤثّر أمر الاُمّ في الوجوب المساوق لها بعد عدم إمكان أن يصير المملوك المستحق مملوكاً ثانياً ، فاللازم هو القول بلغويّة أمرها ، مع أنّه من الواضح خلافه ، وليس ذلك إلاّ لعدم كون الوجوب موجباً لمملوكية الواجب للموجب .
كيف؟ وقد حقّقنا في علم الاُصول أنّ متعلّق الأحكام إنّما هي نفس الطبائع والعناوين لا الأفراد والوجودات(1) ; لأنّها قبل التحقّق ليست بفرد ، وبعده يحصل الغرض المطلوب منها ، فيسقط الأمر ، والطبيعة لا معنى لكونها مملوكة أصلا .
ومنها : ما ذكره كاشف الغطاء وتبعه المحقق النائيني (قدس سرهما) على ما في التقريرات ، وتقريره بنحو التلخيص : أنّه يعتبر في الإجارة وما يلحق بها من الجعالة أن يكون العمل الذي يأخذ الأجير أو العامل بإزائه الاُجرة والجعل ملكاً له ; بأن لا يكون مسلوب الاختيار بإيجاب أو تحريم شرعيٍّ عليه ; لأنّه إذا كان واجباً عليه فلا يقدر على تركه ، وإذا كان محرّماً عليه فلا يقدر على فعله ، ويعتبر في صحّة المعاملة على العمل كون فعله وتركه تحت سلطنته واختياره .
ومن هنا لا يجوز أخذ الاُجرة على الواجبات ; لعدم القدرة على تركها ، ولا على المحرّمات ; لعدم القدرة على فعلها ; فلا يجوز لشاهد الزور أخذ الاُجرة على شهادته ; لخروج عمله عن سلطنته لنهي الشارع ، فلا يقدر على فعله ، فأخذ الاُجرة أكل للمال بالباطل .
وأمّا الواجبات النظاميّة فيجوز أخذ الاُجرة عليها ما عدا القضاء ; لأنّ الأجير فيها مالك لعمله وقادر عليه ; لأنّ الواجب عليه هو بذل عمله بالمعنى المصدري ، لا نتيجة عمله التي هي معنى الإسم المصدري ، وهما وإن لم يكونا أمرين
- (1) اصول فقه شيعة : 5 / 151 ـ 156 .
(الصفحة 535)
متمايزين ، إلاّ أنّهما شيئان اعتباراً ، فللشارع التفكيك بين وجوب المصدر وملكيّة إسم المصدر ، وأمّا التكليف في باب القضاء فقد تعلّق بنتيجة عمل القاضي وهو فصله الخصومة ، فلا يجوز له أخذ الاُجرة عليه ، بخلاف غيره من الطبيب والخيّاط والصباغ .
وكيف كان ، لو وجب بذل العمل وحرم احتكاره فلا مانع من أخذ الاُجرة عليه ، ولو وجب عليه نتيجة العمل فلا يجوز أخذ الاُجرة ; لأنّ المعنى المصدري آليّ ولا يقابل بالمال ، وإسم المصدر خارج عن ملكه(1) .
وفيه وجوه من النّظر :
الأوّل : أنّ المراد بالقدرة المعتبرة في صحّة الإجارة والجعالة ونحوهما إن كان هي القدرة على فعل العمل وتركه حقيقة وتكويناً ، فلا شبهة في عدم منافاتها مع تعلّق التكليف الوجوبي أو التحريمي ، كيف ؟ ووجودها شرط في تعلّق كلّ واحد منهما كما هو واضح ، وإن كان المراد بها هي القدرة شرعاً ; بمعنى أن يكون العمل جائز الفعل والترك عند الشارع ، لا أن يكون واجباً أو محرّماً ، فيرد عليه : أنّ الاستدلال بهذا النحو مصادرة ; لأنّ مرجع ذلك إلى أنّه يعتبر في صحّة الإجارة على العمل عدم كونه واجباً ، وهذا عين المدّعى .
الثاني : أنّ بطلان الإجارة على فعل شيء من المحرّمات ليس لعدم كونه قادراً عليه شرعاً ، والقدرة بهذا المعنى معتبرة في صحّتها ، بل لأنّه لا يعقل اجتماع الأمر بالوفاء بها مع النهي عن فعلها ، فمع ثبوت الثاني كما هو المفروض لا يبقى مجال للأوّل ، وليعلم أنّ المراد بالقدرة على التسليم التي اعتبرها الفقهاء في صحّة المعاملة ، ليس هي القدرة المبحوث عنها في الكتب العقلية التي مرجعها إلى صحّة الفعل والترك ، كيف؟ وهم يحكمون بصحّة المعاملة فيما لم يتحقّق فيه هذا المعنى .
- (1) شرح القواعد ، كتاب المتاجر : 1 / 279 ـ 290 ، منية الطالب : 1 / 45 ـ 46 .
(الصفحة 536)
ألا ترى أنّهم يحكمون بالصحّة فيما لو كان المبيع عند المشتري الغاصب ولم يكن البائع قادراً على أخذه منه بوجه ، حتى يصحّ منه التسليم وعدمه(1) ، وكذلك يحكمون بالصّحة فيما لم يكن البائع قادراً على التسليم بهذا المعنى ، ولكنّ المشتري يقدر على الوصول إليه(2) ، والسرّ أنّ هذا العنوان لم يكن مأخوذاً في شيء من النصوص حتى يتّبع ما هو ظاهره ، بل هو شيء يحكم به العقل لإخراج المعاملات السّفهية الواقعة على مثل السّمك في الماء والطير في الهواء ، فمرجع اعتباره إلى لزوم اشتمال المعاملة على غرض عقلائيّ ، وهو موجود في المقام ، فلا وجه للإشكال في جواز أخذ الاُجرة على الواجب من هذه الجهة .
ثمّ إنّه لو سلّم اعتباره في صحّة المعاملة بالمعنى الرّاجع إلى صحّة الفعل والترك ، وسلّم أيضاً أنّ تعلّق الإيجاب أو التحريم ينافيه ، فدعوى ثبوته في الواجبات النّظامية ما عدا القضاء ; نظراً إلى أنّ الوجوب تعلّق بالمصدر ، والاُجرة واقعة في مقابل إسم المصدر ، ممنوعة ; لاعترافه بأنّ التغاير بين الأمرين إنّما هو بحسب الاعتبار ، وإلاّ فهما في الواقع شيء واحد ، وحينئذ فيقال عليه : إنّه كيف يمكن أن يكون الشيء الواحد مقدوراً وغير مقدور معاً؟ فمع فرض تعلّق الوجوب به المنافي لكونه مقدوراً ، كيف يعقل أن يكون مقدوراً أيضاً؟
وإن شئت قلت : إنّه كيف تجتمع مقدوريّة إسم المصدر مع خروج نفس المصدر عن تحت الاختيار بعد تبعيّته له ، بل عينيّته له؟ كما هو ظاهر .
الثالث : أنّ التفصيل بين القضاء وغيره من الواجبات النّظامية بكون الواجب فيه هو إسم المصدر دونها ممنوع ; لأنّ الواجب في باب القضاء أيضاً هو فصل
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 4 / 187 ـ 188 ، مصباح الفقاهة : 5 / 281 ـ 287 .
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 4 / 190 ـ 191 ، مصباح الفقاهة : 5 / 290 ، تحرير الوسيلة : 1 / 493 ، كتاب البيع ، الشرط الخامس من شروط العوضين .
(الصفحة 537)
الخصومة بالمعنى المصدري ; وهو الحكم والقضاء ، لا كون الخصومة مفصولة ، والدليل على ذلك مراجعة كتاب القضاء ; فإنّ الأحكام المذكورة فيه إنّما تكون مترتّبة على نفس القضاء .
ومنها : أنّ الظاهر من تعلّق الوجوب بشيء كون المطلوب إتيانه مجّاناً وبلا عوض ، فأخذ الاُجرة عليه ينافي ذلك(1) .
ويرد عليه : منع ذلك ; لأنّه مجرّد إدّعاء بلا بيّنة وبرهان .
ومنها : أنّ المعهود في باب الإجارة كون العمل الذي استؤجر عليه بيد المستأجر من حيث الإسقاط والإبراء والتأجيل والتعجيل ، ولو قيل بصحّة الإجارة في المقام يلزم نفي تلك الآثار الثابتة في كلّ إجارة ، فيستكشف من ذلك بطلانها(2) .
ويرد عليه : منع انتفاء هذه الآثار في الإجارة على الواجب ، فإنّه يمكن للمستأجر الإسقاط ويسقط حقّه بذلك ، ولا ينافي ذلك ثبوت حقّ من الله تعالى ، وتظهر الثمرة فيما لو لم يكن المكلّف مريداً لإطاعة أمر الله تعالى ; فإنّه يستحقّ الاُجرة مع الإسقاط .
ومنها : ما عن الشيخ الأعظم (قدس سره) في مكاسبه من أنّ عمل المسلم مال ، لكنّه غير محترم مع الوجوب ، لكون العامل مقهوراً عليه من دون دخل إذنه ورضاه ، فالإيجاب مسقط لاعتبار إذنه ورضاه المتقوّمين لاحترام المال(3) .
وأجاب عنه المحقق الإصفهاني (قدس سره) بأنّ لمال المسلم حيثيتين من الاحترام :
أحداهما : حيثية أضافته إلى المسلم ، وهذه الحيثية يقتضي احترامها أن لا
- (1) اُنظر تكملة التبصرة للمحقّق الخراساني : 116 .
(2) شرح القواعد ، كتاب المتاجر : 1 / 279 ـ 280 .
(3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 2 / 135 .