(الصفحة 549)
التسبيبي وبين ما يتسبّب إليه إرادة الفاعل المختار ، وهو محلّ الكلام ، والشقّ الثاني يرجع إلى الجواب عن الوجه الأوّل من وجهي الإشكال ، فتدبّر(1) .
ومنها : ما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في كتاب الإجارة ممّا حاصله : أنّ دفع الإشكال موقوف على تقديم أمرين :
الأوّل : أنّ غاية كلّ فعل هي فائدته القائمة به ، وهي بوجودها الخارجي غاية ، وبوجودها العلمي علّة غائية ، والأمر ليس من فوائد الفعل بوجوده الخارجي ، كيف؟ وهو متقدّم عليه ، ولا يعقل بقاؤه بعد وجود الفعل ، فليس بوجوده العلمي علّة غائية حتى يوصف بكونه داعياً وباعثاً .
الثاني : أنّ موافقة المأتي به للمأمور به من عناوين الفعل ، وقصد الامتثال مرجعه إلى قصد إتيان المماثل للمأمور به من حيث إنّه كذلك ، وقصد موافقة الأمر مرجعه إلى قصد ما يوافق المأمور به من حيث إنّه كذلك ، ولا يخفى عليك أنّ موافقة المأتيّ به تارة بالإضافة إلى ذات المأمور به ، واُخرى بالإضافة إلى المأمور به بما هو مأمور به ، ومرجع الأوّل إلى موافقة الفرد للطبيعي ، وهو أجنبيّ عن قصد القربة ، ولا ينطبق عليه عنوان من العناوين الحسنة .
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ النائب تارة : يأتي بالفعل الموافق لما اُمر به المنوب عنه من دون قصد عنوانه ، بل يدعوه إليه داع آخر ، فالفعل المنسوب إلى المنوب عنه غير عباديّ .
واُخرى : يأتي بالفعل بقصد كونه موافقاً لما أمر به المنوب عنه ، لا عن المنوب عنه ، فالفعل لا يقع عباديّاً لا عن المنوب عنه ; لعدم إتيانه عنه ، ولا عن النائب ، لعدم المضايف فيه ، إذ لا مأمور به له حتى يقصد كون المأتيّ به موافقاً للمأمور به ، ومجرّد كونه موافقا لذات المأمور به لا يجدي في العبادية .
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 231 .
(الصفحة 550)
وثالثة : يأتي بالفعل بقصد كونه موافقاً للمأمور به عن المنوب عنه ، فهذا العنوان المقصود حيث إنّه عن المنوب عنه ، فمضايفه بالإضافة إليه فعليّ ، وبعد فرض انتسابه إلى من كان مضايفه فعليّاً فيه يمكن إتيان الفعل المعنون بهذا العنوان في ذاته بقصد عنوانه من أيّ شخص كان ; حيث لا يتفاوت تعنون الفعل بهذا العنوان بتفاوت الأشخاص ، وأنّ صيرورته عباديّاً بقصده لابدّ فيها من انتسابه إلى من كان مضايف العنوان فعليّاً فيه(1) .
ومرجع ما أفاده إلى أنّه لا يلزم في ثبوت وصف العبادية توجّه الأمر إلى الفاعل وإتيانه المأمور به بداعي الأمر المتوجّه إليه ، بل يكفي فيه كون العمل المأتي به موافقاً للمأمور به ، والإتيان به كذلك ; مع إمكان صحّة الانتساب إلى من كان مأموراً بذاك الأمر ، فإذا فرض قيام الدّليل على صحة النّيابة ، ومرجعه إلى إمكان الانتساب إلى المنوب عنه ، فلا يبقى من جهة العباديّة نقصان وخلل أصلا ، من دون فرق بين ما إذا كان هناك استنابة أم لا ، فإنّ ثبوت الأمر وتوجّهه إلى المنوب عنه وصحة الانتساب إليه ـ على ما هو مقتضى أدلّة مشروعية النّيابة والإتيان بقصد الموافقة للمأمور به بما هو كذلك ـ يكفي في وقوعه عبادة ; لثبوت الأمر من ناحية ، وصحّة الانتساب من ناحية اُخرى ، والإتيان بها بهذا العنوان من ناحية ثالثة . وعليه : فلا حاجة في حصول التقرّب المقوّم للعبادية لتوجّه الأمر إلى الفاعل أصلا .
وهذا هو الجواب الصحيح عن الوجه الثاني ، وبه يظهر الجواب عن الوجه الأوّل ; فإنّ مقتضى ما ذكرنا هو حصول القرب للمنوب عنه بسبب إتيان النائب المنوب فيه بقصد كونه موافقاً للمأمور به عن المنوب عنه ; بداهة أنّه إذا كانت
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 232 ـ 233 .
(الصفحة 551)
عباديّته لأجل الإتيان به بذلك القصد عن المنوب عنه ، فلازمه هو حصول القرب للمنوب عنه ، ولا وجه لتقرّب النائب أصلا ، فالقصد يتحقّق من النائب ، والقرب يقع للمنوب عنه من دون محذور ، ولا وجه للالتزام بعدم لزوم قصد التقرّب على النائب ، وأنّ رضا المنوب عنه بما نسب إليه كاف في مقرّبية العمل له ، كما أنّه لا وجه للالتجاء إلى إنكار النيابة بالمعنى المعروف وإرجاع النّيابة إلى ما يساوق إهداء الثواب .
مضافاً إلى ما اُورد على الأوّل بعد توجيهه بأنّ غرضه ليس تعلّق التكليف بالأعمّ من الفعل ومن الرّضا بما يؤتى به عنه بحيث يكون الرّضا أحد فردي الواجب التخييري . وأيضاً ليس غرضه تعلّق التكليف بالأعمّ من الفعل المباشري والفعل المرضيّ به ; لاستحالة تعلّق التكليف بما ليس من ايجادات المكلّف . كما أنّه ليس المراد أنّ صدور الفعل مع الرّضا به كاف في المقرّبية ، بل الغرض أنّ الفعل المنسوب إليه بالنيابة المشروعة إذا رضي به المنوب عنه بما هو موافق لأمره وبما هو دين الله عليه قربيّ منه ، بحيث لو صدر منه مباشرة من حيث كونه كذلك لكان مقرّباً له بلا شبهة .
ومحصّل الإيراد : أنّه لا يتمّ في النيابة عن الميّت ; فإنّ المكلّف به هو العمل مع قصد الامتثال ، فلابدّ في سقوط التكليف من حصول هذا المقيّد في هذه النشأة ، فكون العمل في هذه النشأة ، وقيده في نشأة الآخرة ليس امتثالا للتكليف الذي لاموقع له إلاّ في النشأة الدنيويّة .
وإلى ما اُورد على الثاني بأنّه مناف لظاهر النصوص والفتاوى ; فإنّ الحجّ الذي يستنيب فيه الحيّ العاجز ، لا يراد منه إلاّ إسقاط التكليف المتوجّه إليه بالاستنابة ، لا مجرّد تحصيل ثوابه ، مضافاً إلى أنّ تقرّب النائب وإيصال الثواب إنّما يتصوّر فيما كان مستحبّاً في حقّ النائب كالحجّ والزيارة المندوبين ، وأمّا القضاء عن
(الصفحة 552)
الميّت ـ وجوباً أو تبرّعاً ـ فلا أمر للنائب إلاّ الأمر الوجوبي أو النّدبي بالنيابة لا بالمنوب فيه ، وأوامر النيابة توصّلية .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الجواب الصحيح عن الوجه الأوّل ما ذكر ، فتدبّر .
بقي الكلام في الواجبات النظاميّة التي قام الإجماع بل الضرورة على جواز أخذ الاُجرة فيها(1) ، فإن قلنا بعدم استلزام القول بالجواز في غيرها لشيء من الايرادات العقلية المتقدّمة ـ كما هو الحقّ وقد عرفته ـ فلا يكون الحكم بالجواز فيها مخالفاً لحكم العقل وللقاعدة . وأمّا إن قلنا بالاستلزام فلابدّ من أن يكون خروج الواجبات النظامية والحكم بالجواز فيها مستنداً إلى دليل ، وفي الحقيقة يرد على المشهور القائلين بالمنع(2) ، النقض بالواجبات النظامية ، ولابدّ لهم من الجواب ، وقد اُجيب عن ذلك بوجوه :
منها : خروجها بالإجماع والسيرة القائمين على الجواز في خصوصها(3) .
ويرد عليه : أنّه إنّما يجدي إذا كان المنع لدليل تعبّدي ; فإنّه على هذا التقدير يخصّص عمومه بالإجماع والسيرة المذكورين . وأمّا إذا كان المنع لأمر عقليّ ـ كما عرفت ـ فلا موقع لتخصيصه بما عدا الواجبات النظامية ، كما هو الظاهر .
ومنها : ما عن جامع المقاصد من اختصاص الجواز بصورة سبق قيام من به الكفاية بالعمل ، وعليه : فيخرج عن أخذ الاُجرة على الواجب تخصّصاً(4) .
ويرد عليه : أنّه مناف لإطلاق كلام الأصحاب ; فإنّ ظاهرهم ثبوت الجواز
- (1) مجمع الفائدة والبرهان : 8/89 ، رياض المسائل : 8/82 ـ 83 ، المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 2/137 .
(2) تقدم تخريجاته في ص 531 .
(3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 2 / 137 .
(4) جامع المقاصد : 7 / 181 ـ 182 .
(الصفحة 553)
بالإضافة إلى السابق أيضاً ، وبعبارة اُخرى : مرجعه إلى تسليم الإشكال ; لأنّه مع سبق قيام من به الكفاية يسقط الوجوب ، ولا يكون أخذ الاُجرة حينئذ في مقابل الواجب كما عرفت .
ومنها : ما نسب إلى صاحب الرياض (قدس سره) من اختصاص المنع بالواجبات الذاتيّة النفسيّة ، كدفن الميّت وتعليم الأحكام ، لا الواجبات المقدميّة كالصناعات التي هي مقدّمة لحفظ النظام الواجب(1) .
واُورد عليه : بأنّ المنع ليس لدليل لبّي يؤخذ فيه بالمتيقّن ، ولا لفظيّ ليدّعى انصرافه عن الواجب الغيري ، بل المانع أمر عقلي ينافي طبيعة الوجوب نفسيّاً كان أم غيريّاً(2) .
ويمكن الجواب عنه بأنّ القدر المسلّم من حفظ النظام الواجب هو حفظه بنحو لا يوجب الهرج والمرج ، والاُجرة لا تقع في مقابل ما تعلّق به التكليف ، بل هي واقعة في مقابل المقدّمات ; ضرورة أنّها تقع في مقابل الطبابة والخياطة ونحوهما ، وهذه الاُمور مقدّمة لتحقّق الواجب ، وقد حقّق في محلّه أنّه لا يسري الوجوب من ذي المقدمة إليها(3) ، فلا يستلزم القول بالجواز فيها شيئاً من الايرادات العقلية المتقدّمة ، ولكن مقتضاه التصرّف في كلام الرياض ; لأنّ لازمه جواز أخذ الاُجرة مع حفظ الوجوب الغيري وثبوته ، كما لا يخفى .
ومنه يظهر بطلان ما عن بعض الأعلام في مقام الجواب عن صاحب الرياض ، من أنّ تلك الصناعات مع انحفاظ النظام متحدان في الوجود كالإلقاء والإحراق ، والضرب والتأديب ، والمقدّمة المتحدة الوجود مع ذيها لا تجب
- (1) رياض المسائل : 8/82 ـ 83 ، والحاكي هوالمحقّق الإصفهاني في بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 210 .
(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 210 .
(3) اُصول فقه شيعة : 4 / 559 ـ 628 .