(الصفحة 72)
والظاهر بملاحظة فتاوى الفقهاء رضوان الله عليهم أجمعين بثبوت خصوص ما يرجع إلى ضرر المقرّ ، وبملاحظة ظهور عبارة القاعدة في كون الظرف متعلقاً بالإقرار ، هو هذا الاحتمال الثالث الذي يرجع إلى تقييد الموضوع والحكم معاً بكونه على النفس .
ولكن في المقام إشكال مهمّ أورده النراقي (قدس سره) في عوائده مفصّلا ، وخلاصته : أنّه إذا كان الإقرار بأمر واحد لا يمكن تحقّقه إلاّ بين اثنين ، كالإقرار بالزوجيّة في المثال المتقدّم ، يشكل الحكم بنفوذ الإقرار فيه ، بل لا يمكن الحكم به لا في حقّ المقرّ ولا في حقّ الغير ، أمّا في حقّ الغير فظاهر ، وأمّا في حقّه فلعدم إمكان تحقّقه بدون الثبوت في حقّ الغير ، وبعبارة اُخرى : إمّا يحكم بنفوذه في حقّهما ، فيلزم نفوذ الإقرار في حقّ الغير وهو باطل شرعاً ، أو بنفوذه في حقّه خاصّة دون حقّ الآخر وهو باطل عقلا ; لاستلزامه انفكاك ما يمتنع انفكاكه عن الشيء ، مع أنّه لو حكم بعدم النفوذ أيضاً لا يكون مخالفة فيه ; لعموم النبوي ; إذ الثابت منه نفوذ الإقرار في حقّ النفس ، وهذا إقرار بشيء واحد في حقّ النفس والغير ، فلا يشمله الخبر ، بل ليس ذلك متبادراً من الإقرار على النفس(1) .
والجواب عن هذا الإشكال : أنّ وروده يبتني على أن يكون مقتضى الحديث ، الحكم بالثبوت الواقعي التكويني ، فإنّه مع فرض تقوّم الشيء بشخصين واستحالة التفكيك بين أمرين لا يبقى مجال للتفكيك بوجه ، وأمّا إذا كان المراد هو الثبوت التعبّدي فلا إشكال في التفكيك ; لأنّ مرجعه إلى الحكم بالثبوت في مقدار دلّ دليل التعبّد عليه ، فإنّه في مثل المثال إذا كان زيد شاكّاً في بقاء زوجيّته المتيقّنة في السابق ، والزوجة عالمة بزوال الزوجية ، يكون مقتضى قاعدة «لا تنقض» الجارية في حقّ الزوج لزوم ترتيب آثار الزوجيّة من إعطاء النفقة ومثله ، ولا تجب على الزوجة
- (1) عوائد الأ يّام : 489 ـ 490 .
(الصفحة 73)
الموافقة مع العلم بزوالها ، وليس ذلك إلاّ لأجل كون الثبوت ثبوتاً تعبّدياً لا مانع فيه من تحقّق التفكيك بوجه .
كما أنّه لا مانع في الثبوت التعبّدي من التضادّ أصلا ، فإذا كان شخصان مشتركين في ثوب واحد ، وكان الثوب مشكوك النجاسة في زمان ، ولكن كانت حالته السابقة المتيقّنة الطهارة بالإضافة إلى أحدهما والنجاسة بالإضافة إلى آخر ، يكون مقتضى الاستصحابين النجاسة والطهارة معاً في ثوب واحد ، ولا مانع منه بعد فرض كون الثبوت تعبّدياً .
وبالجملة : لا مجال للإشكال في موارد الثبوت التعبدي بعد قصور دليل التعبد عن الشمول للمدلول الالتزامي ; فإنّه يتحقّق حينئذ الانفكاك من دون أن يكون هناك مانع .
إن قلت : إنّ ما ذكرت إنّما يتمّ في الاُصول العمليّة ، حيث إنّ مثبتاتها ليست بحجّة ، والحجّية مقصورة على المدلول المطابقي . وأمّا في باب الأمارات ، فقد اشتهرت حجيّة مثبتاتها وعدم انحصار الحجّية فيها بالمدلول المطابقي ، بل شمولها للمدلول الالتزامي أيضاً ، فإذا شهدت البيّنة مثلا بأنّ زيداً بلغ ثلاثين سنة ، فكما أنّ شهادتها حجّة في هذا المدلول المطابقي ، فكذلك حجّة في اللوازم العادية والعقلية أيضاً ، وقد مرّ أنّ الإقرار عند العقلاء من الأمارات الظنّية القويّة وقد أمضاها الشارع ، فاللازم أن يكون حجّة بالإضافة إلى اللّوازم أيضاً .
قلت : الفرق بين الاُصول والأمارات بما ذكرت ليس مستنداً إلى تعبّد في هذه الجهة بحيث كان مقتضاه التفكيك في الاُصول دون الأمارات ، بل لأجل أنّ دليل الأصل لا يشمل المدلول الالتزامي بوجه دون دليل الأمارة ، فإذا كان حياة زيد مشكوكة من حيث البقاء يكون مقتضى الاستصحاب الحكم بالبقاء ، ولكن لايلزم ترتيب آثار البقاء التي لم تكن متيقّنة في السابق ، بل كانت متيقّنة العدم كنبات
(الصفحة 74)
اللحية ، الذي لم يكن له حالة سابقة ، فمعنى عدم حجّية مثبت الاستصحاب أنّ دليل لا تنقض لا يجري إلاّ في خصوص ما كان فيه يقين بالحدوث وشك في البقاء ، ولا معنى لجريانه فيما ليس فيه هذا العنوان ; وهو اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء .
وأمّا في مثل مثال البيّنة فالشهادة ببلوغ زيد ثلاثين شهادة بجميع لوازمه العادية والعقليّة ، والمفروض عدم انحصار دليل حجّية البيّنة بخصوص المدلول المطابقي ، فكلّما قامت على البيّنة فهو ثابت ; سواء كان مدلولا مطابقيّاً أو مدلولا التزاميّاً ، وبعبارة اُخرى : يدخل الجميع في دائرة الشهادة ، والمفروض اعتبارها .
لكن في المقام مع كون الإقرار من الأمارات عند العقلاء والشارع ، الاّ أنّه، حيث يكون دليل الإمضاء مقيّداً موضوعاً وحكماً بكونه على النفس ، فلا يبقى مجال لتوسعة دائرة الحكم بالثبوت بغير ما إذا كان على النفس ، بل لابدّ من الاقتصار على هذه الجهة والتّحديد بذلك ، فالإقرار مع كونه أمارة لكنّه لا يترتّب عليه إلاّ ما كان على النفس ، ولا مانع من التفكيك كما عرفت .
ونظيره قاعدة التجاوز بناءً على كونها أمارة ; فإنّه لو شك في إتيان صلاة الظهر في أثناء الاشتغال بصلاة العصر ، أو شك في أثناء الصلاة أنّه توضّأ أم لا؟ يكون مقتضى قاعدة التجاوز البناء على الإتيان بصلاة الظهر في المثال الأوّل من جهة شرطيّتها لصلاة العصر ، ولزوم الترتيب بين الصلاتين ، لا مطلقاً حتّى لا يجب الإتيان بها بعد الفراغ عن صلاة العصر مع بقاء الوقت وكون الإتيان بها مشكوكاً ، كما أنّ مقتضى قاعدة التجاوز أنّه توضّأ من جهة شرطية الطهارة للصلاة التي هو مشتغل بها ، لا أنّه توضّأ مطلقاً حتى لا يجب عليه التوضّؤ لصلاة اُخرى مع اشتراطها بالوضوء وكونه مشكوكاً ، فالتعبّد بوجود صلاة الظهر في الأوّل وبوجود الوضوء في الثاني لا يكون تعبّداً مطلقاً ، بل محدوداً بما تكون القاعدة مقيّدة به ;
(الصفحة 75)
وهو صدق عنوان التجاوز ، فالأمارية لا تلازم الحكم بالثبوت مطلقاً .
ولذلك ترى الفقهاء يفتون في المقام بأنّه لو أقرّ بالزنا بالمرأة الفلانية يترتّب على إقراره حدّ الزنا من الجلد مع عدم الإحصان ، والرّجم معه ، ولكنّه لا يثبت على المرأة شيء من جهة هذا الإقرار أصلا .
كما أنّه لو أقرّ ببنوّة شخص له ، يترتّب على إقراره وجوب الإنفاق على تقديره ; كما أنّه يرث منه بمقتضى إقراره ، ولكنّه لا يرث منه ، ولا مانع من الانفكاك .
وخلاصة الكلام أنّ الإقرار ـ كما في العوائد(1) ـ إمّا أن يكون في حقّ الغير محضاً ; كأن يقول : زيد سرق مال عمرو ، أو في حقّ نفسه كذلك ; كأن يقول : هذا ليس مالي ، أو عليّ درهم في سبيل الله ، أو يكون في حقّه وحقّ الغير معاً ، وهو على قسمين ; لأنّه إمّا أن يكون إقراراً مركّباً من أمرين يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر يقرّ بأحدهما لنفسه وبالآخر للآخر فيقول : بعت أنا وشريكي تمام الدار ، أو يكون إقراراً بأمر واحد لا يمكن تحقّقه إلاّ بين اثنين .
وبعبارة اُخرى : يكون اعترافاً بأمرين يمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر ; كأن يقرّ بمبايعة، أو مصالحة، أو مؤاجرة ، أو زوجيّة، أو تطليق ، أو يقرّ باُخوّته لهند واُختيّتها له ، أو ببنوّته لعمرو واُبوّته له ، ونحو ذلك .
والحكم في الأوّلين واضح ، وكذا في القسم الثالث ، ضرورة أنّه ينفذ في حقّ نفسه لا في حقّ الآخر ، والإشكال إنّما هو في القسم الرّابع ، وقد عرفت توضيح الإشكال وكذا تفصيل الجواب ، وخلاصته : الفرق بين الثبوت الواقعي ، وبين الثبوت التعبّدي الذي هو مفاد قاعدة الإقرار المستفادة من دليل الإمضاء .
- (1) عوائد الأ يّام : 489 .
(الصفحة 76)
وينبغي التنبيه على اُمور :
الأمر الأوّل : قد عرفت أنّ الإقرار لغة وعرفاً عبارة عن جعل الشيء ذا قرار وثبات ، وأنّ الإقرار على النفس معناه تثبيت شيء عليها وبضررها ; سواء كان مالا أو حقّاً أو أمراً مستتبعاً لثبوت حقّ أو مال على نفسه ، كإقراره بثبوت نسبة بينه وبين غيره ، وسواء كان الحق حق الناس كالدين مثلا ، أو حقّ الله كالإقرار بما يوجب الحدّ من الزنا وغيره .
ولا فرق في تحقّق الإقرار على النفس بين أن يكون مدلولا مطابقيّاً للّفظ، كما إذا قال : أنا مديون لزيد بمائة درهم مثلا ، أو مدلولا التزاميّاً كما إذا قال زيد مخاطباً له : «أنت مديون لي بكذا» ، فقال في جوابه : «رددت عليك دينك» ، فإنّ قوله : «رددت . . .» وإن لم يكن مدلوله المطابقي الإقرار بثبوت الدين ، إلاّ أنّ مدلوله الالتزامي يكون إقراراً عند العرف بثبوته ، ولذلك ترى الفقهاء يحكمون بلزوم إقامة البيّنة على الردّ بعد إقراره بثبوت الدّين ، ولو قال في جواب المدّعي : مالك عليّ دين ، لم يلزم عليه إقامة البيّنة ; لأنّه كان منكراً ، ووظيفته اليمين مع عدم إقامة المدّعي البيّنة .
وبالجملة : لا إشكال في اعتناء العرف والعقلاء بالإقرار الّذي يكون مدلولا التزاميّاً . هذا كلّه إذا كان الإقرار باللفظ .
وأمّا إذا كان بغير اللفظ كالإشارة ، كما إذا سأله الحاكم : هل أنت مديون لزيد؟ فصدّقه بالإشارة ، فلا إشكال في كونه إقراراً في الجملة وينفذ على المقرّ ، إنّما الإشكال في أنّه هل بينه وبين الإقرار باللفظ فرق من جهة انه لا يعتبر في اللفظ إلاّ مجرّد الظهور الذي يكون حجّة عند العقلاء في باب الألفاظ ، ويعتبر في غيره الصراحة بحيث لا يحتمل الغير بوجه ، ولا يجرى فيه احتمال آخر أصلا ، أو أنّه لا فرق بينهما أصلا ، بل يكون الملاك في كليهما هو الظّهور ، فكما أنّ اللفظ الظاهر في