(الصفحة 90)
عصر السيّد والشيخ كان خبراً مرويّاً عنهم على سبيل الاحتجاج عليهم ، ثمّ صار مورد التمسّك في العصر المتأخر ، ثمّ صار من المشهورات في عصر آخر ، ومن المشهورات المقبولات في هذه الاعصار ، حتى يقال : لا ينبغي التكلّم في سنده(1) ، فالبناء على الاعتماد عليه مشكل .
ثمّ قال ـ دام ظلّه ـ ما ملخّصه أيضاً : وترك العمل به ـ مع جزم ابن إدريس بصدوره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع طريقته في العمل بالأخبار ، وإن أمكن أن يكون ذلك باجتهاد منه ، وقيام قرائن عنده ربّما لا تفيدنا علماً ولا عملا ، واختلاف عبارات الحديث بحيث ربما يكشف عن تكرّره وتظافره ، واعتماد محقّقي أصحابنا من بعد ابن إدريس إلى عصرنا ، مع تورّعهم والتفاتهم إلى ضعفه ، ولابدّ من الجبر في مثله ، وهو لا يمكن إلاّ باعتماد قدماء الأصحاب عليه ، ولعلّه شهادة منهم على اتّكال الأصحاب عليه ـ مشكل آخر .
ولعلّ من مجموع ذلك ، ومن اشتهاره بين العامّة قديماً ، ومن إتقان متنه وفصاحته ربّما يحصل الوثوق بصدوره ، ولعلّ بناء العقلاء على مثله مع تلك الشواهد لا يقصر عن العمل بخبر الثقة .
ثمّ قال ـ دام ظلّه ـ بعد ذلك ما خلاصته أيضاً : في النفس تردّد ; لأنّ ابن إدريس مع ما عرفت منه ، تمسّك في كتاب الغصب من السرائر في المسألة بالأصل وعدم الدليل ، ثمّ قال : ويحتجّ على المخالف بقوله (صلى الله عليه وآله) : «على اليد . . .»(2) وهذا يوجب حصول الاحتمال بأنّ سائر الموارد من قبيل الاحتجاج عليهم لا التمسّك به ، ولم أرَ إلى الآن فيما عندي من كتب العلاّمة تمسّكه به لإثبات حكم ، وإنّما نقل عن
- (1) اُنظر عوائد الأيّام : 315 ، وغاية الآمال في حاشية المكاسب : 5 / 54 ، والقواعد الفقهية للمحقّق البجنوردي : 2 / 107 و ج 4 / 54 ـ 55 .
(2) السرائر : 2 / 481 .
(الصفحة 91)
ابن جنيد وابن إدريس التمسّك به(1) ، وحدوث الاشتهار بعده لا يفيد شيئاً(2) .
ويمكن الإيراد عليه بظهور عبارة السيّد في الانتصار في أنّه في مقام الاحتجاج عليهم بما هو مقبول عنده وعندهم ، لا بما هو مورد لقبولهم فقط ، حتى يكون من باب الجدل ، وأظهر منها عبارة الشيخ في الخلاف ; حيث إنّه في مقام الاستدلال لما هو المختار عند الإماميّة ، والجمع بين الاستدلال بالرواية والاستدلال بالأصل إنّما هو كالجمع في مقام الاستدلال في كثير من المسائل الخلافيّة بين الفريقين بإجماع الفرقة وأخبارهم ، مع أنّه مع وجود الرواية في المسألة ، واحتمال استناد المجمعين إليها ، لا يبقى للإجماع أصالة ، بل الدليل هي الرواية الموجودة فيها ، ولعلّ الوجه فيه عدم كون مرتبة الأصل في مقابل الأمارة منقحة بالكيفيّة المقرّرة في هذه الأزمنة التي بلغت التحقيقات الأصولية فيها كمالها بحيث ربّما يوصف علم الاُصول فيه بالتورّم ونحوه ، خصوصاً بالإضافة إلى الأمارة الموافقة للأصل ، كما في هذا المقام .
وبالجملة : حمل استدلال الشيخ في الخلاف في المسألة المذكورة على كونها في مقام الاحتجاج عليهم دون الاستناد والاستدلال ، لا مجال لأن يصار إليه بوجه ، وأظهر من الجميع عبارة الغنية ; حيث تسند الرواية إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقوله ، من دون أن تسند إلى الرواية وأن تعبر بمثل روى ، أو يروونه كما في كلام السيّد في الانتصار ; فإنّ التعبير عنها بقوله (صلى الله عليه وآله) لا يكاد يجتمع مع عدم ثبوته وعدم حجيّة روايته ، وقد ذكر سيّدنا العلاّمة الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ في مباحثه الفقهية مكرّراً أنّ الإرسال إذا كان بنحو الإسناد إلى المعصوم دون الرواية لكان حجّة قابلا للاعتماد ، وعبارة الغنية من هذا القبيل .
- (1) مختلف الشيعة : 6 / 32 مسألة 5 و ص 39 ـ 40 مسألة 18 .
(2) كتاب البيع للإمام الخميني (قدس سره) : 1 / 372 ـ 376 .
(الصفحة 92)
ولعلّ جميع ما ذكر صار منشأً لجزم ابن إدريس ، مع عدم قوله بحجّية خبر الواحد ولو بلغ في الوثاقة والعدالة المرتبة العليا(1) ; فإنّه من المستبعد غاية الاستبعاد أن يكون عنده قرائن خارجية لم تكن عند السابقين ، مع تقدّم زمانهم وشدّة ارتباطهم بالأحاديث ، واختلاطهم بفقهاء العامّة ومحدّثيهم وقرب عصرهم ، وما ذكرنا ـ مضافاً إلى الشواهد المذكورة في كلامه دام ظلّه ، وإلى الجواب عمّا أوجب التردّد له ، بما ذكرنا عن عبارة الغنية ـ يوجب الوثوق الكامل بصدور الرّواية ، بحيث لا يبقى مجال للمناقشة في اعتبارها وحجيّتها .
وأمّا عدم تعرّض جمع من كتب القدماء والمتوسطين له ، فلعلّه لأجل أنّه لا يكون مفاد الرواية مخالفاً للقاعدة الثابتة عند العقلاء ; لأنّ بناءهم أيضاً على ضمان يد الغاصب والرجوع إليه لأخذ العين أو المثل أو القيمة كما لا يخفى ، ولأجل عدم المخالفة ربما لا يرى احتياج إلى إيرادها والتمسّك بها ، خصوصاً مع وجود الروايات الخاصّة نوعاً في بعض مواردها ، مثل صحيحة أبي ولاّد المعروفة الآتية(2) إن شاء الله تعالى ، فتدبّر ، فالإنصاف أنّ الرواية معتبرة قابلة للاستناد .
وأمّا مفادها ودلالتها التي هي عمدة البحث في الحديث ، فنقول :
لا خفاء في أنّ مفاد الحديث لا يكون هو الإخبار بحيث تكون الجملة خبريّة حاكية ، وإن لم يذكر في شيء من كتب الأحاديث المشتملة على هذه الرواية مورد وشأن نزول لهذا القول ، بخلاف حديث «لا ضرر»(3) حيث كان مورده قصّة سمرة ابن جندب المعروفة في مورد النخلة التي كانت له ، ولكنّه مع ذلك لا مجال لاحتمال الإخبار في المقام ; لأنّه ـ مضافاً إلى أنّ نفس النقل والضبط في كتب الأحاديث
- (1) السرائر : 1 / 47 (مقدّمة المؤلف) .
(2) في ص 133 .
(3) وسائل الشيعة : 25 / 428 ـ 429 ، كتاب إحياء الموات ب 12 ح 3 ـ 5 .
(الصفحة 93)
قرينة على كون مفادها حكماً إلهيّاً وضعيّاً أو تكليفيّاً ، وليس مفادها الإخبار كسائر إخبارات النبيّ (صلى الله عليه وآله) المتعارفة ـ لا وجه للحمل على الإخبار ; لأنّه على هذا التقدير لابدّ وأن يقال بكونه إخباراً عن أمر كلّي ; لظهور أنّ اللاّم في «اليد» لا تكون إشارة إلى العهد الذكري أو الذهني ، بل هو للجنس ، ومفاده الطّبيعة .
وعليه : فيصير المعنى بناءً على الإخبار : أنّ ما وقع في اليد يبقى فيها حتّى تؤدّيه إلى صاحبه ، وهذا المعنى ـ مضافاً إلى كونه توضيحاً للواضح ; لوضوح ثبوت البقاء إلى أن يتحقّق الأداء ـ يكون مخالفاً للواقع في بعض الموارد ; لأنّه ربما لا يكون السبب لزوال البقاء هو الأداء ، بل الإيقاع في البحر أو إحراقه أو أمثال ذلك ، فهذا الاحتمال في غاية السقوط ، إذا عرفت ذلك فنقول :
لا خفاء في أنّ كلمة «على اليد» خبر مقدّم ومبتدأه الموصول في قوله : «ما أخذت» ، ومعناه : أنّ المال المأخوذ يكون على اليد وعلى عهدتها ، وبما أنّه ليس في الحديث فعل أو شبه فعل يكون قابلا لأن يتعلّق به الظرف ، فلابدّ من تقديره ، والمقدّر إن كان من أفعال العموم ; أي الأفعال التي تنطبق على كلّ فعل وحدث صدر عن الفاعل ، كاستقرّ أو ثبت أو حصل ، فالظرف ظرف مستقرّ ، وإن كان من أفعال الخصوص ، أي الأفعال الخاصّة التي لا ينطبق بعضها على بعض ، للتقابل أو التخالف المتحقّق بينهما ، فالظرف ظرف لغو .
إذا عرفت ذلك ، يقع الكلام في أنّ الظرف في الحديث الشريف ـ بعد خلوّه عن الفعل وشبهه ـ هل يكون ظرفاً مستقرّاً متعلّقاً بمقدّر هو من أفعال العموم ، أو ظرفاً لغواً متعلّقاً بمقدّر هو من أفعال الخصوص؟ لا خفاء في أ نّ تقدير فعل من أفعال الخصوص مع فرض خصوصيته وعدم انطباقه على غيره لأجل التقابل أو التخالف ، لا يكاد يصار إليه إلاّ مع ضرورة مقتضية لتقديره ، ومع فرض عدم الضرورة واستقامة الكلام بدونه لا مجال لتقديره ، وهذا بخلاف تقدير فعل من
(الصفحة 94)
أفعال العموم ; فإنّ تقديره مع فرض انطباقه على جميع الأفعال والأحداث ولزوم تعلّق الظرف به ، لا يحتاج إلى مؤونة زائدة ، فعند دوران الأمر بين التقديرين يكون الترجيح للتقدير الثاني ، أي : تقدير فعل من أفعال العموم لما عرفت .
وحينئذ نقول في المقام : إنّ جعل الظرف متعلّقاً بمثل «استقرّ» مع كون المبتدأ نفس المال الذي أخذته اليد في كمال الاستقامة والملاءَمة ; لأنّ معناه أنّ المال المأخوذ ثابت ومستقرّ على اليد حتى تتحقّق الغاية ، وهي أداء المال المأخوذ وردّه إلى صاحبه .
وبالجملة : لا يرى فرق بين المقام ، وبين ما إذا قيل : زيد على السّطح ، فكما أنّه لا مجال لدعوى الإجمال فيه بلحاظ احتمال كون المتعلّق هو «كائن» أو «مستقرّ» أو أشباههما من أفعال العموم ، واحتمال كون المتعلّق هو «قائم» أو «ضارب» أو أشباههما من أفعال الخصوص ; لتحقّق ملاك الحمل في القضية الحملية ، وهو الاتّحاد والهوهوية في كلا الأمرين ; لاتحاد زيد مع الكائن على السطح ، كاتّحاده مع القائم عليه أو الضارب عليه .
والوجه في بطلان دعوى الإجمال الرجوع إلى العرف والعقلاء في محاوراتهم ; فإنّهم لا يرون للقول المزبور إجمالا أصلا ، ولا يعاملون معه معاملة المجمل ; نظراً إلى الاحتمالين ، كذلك لا مجال لدعوى الإجمال في المقام ; لعدم الفرق بينه وبين القول المزبور إلاّ فيما لا يكون فارقاً بوجه ، كما ستأتي الإشارة إليه .
وكما أنّه لا مجال للتشكيك في كون المتعلّق في القول المزبور هو الفعل الّذي هو من أفعال العموم ; لأنّه المتفاهم عند العرف ، فإنّ تقدير مثل القيام والضرب يحتاج إلى مؤونة زائدة ، وليس كذلك تقدير شيء من أفعال العموم ،كذلك لا ينبغي التشكيك في المقام في أنّ المتعلّق المحذوف أيضاً شيء من أفعال العموم ; لعدم الفرق بين المقامين إلاّ في كون القول المزبور جملة خبرية حاكية ، والمقام بصدد إفادة