(صفحه112)
ب ـ ما أفاده بعض الأعلام من أنّه لا يعقل تحقّق المناسبة الذاتيّة بين جميعالألفاظ والمعاني، لاستلزام ذلك تحقّقها بين لفظ واحد ومعانٍ متضادّة، كما إذكان للفظ واحد معانٍ كذلك، كلفظ «الجون» الموضوع للأبيض والأسود،ولفظ «القرء» الموضوع للطهر والحيض، وغيرهما، وهو غير معقول، فإنّ تحقّقالمناسبة الذاتيّة بين لفظ واحد ومعانٍ كذلك يستلزم تحقّقها بين نفس هذهالمعاني أيضاً كما لايخفى(1).
وأمّا ما قيل من أنّه لو لا المناسبة الذاتيّة بين الألفاظ والمعاني لكانتخصيص الواضع لكلّ معنى لفظاً مخصوصاً ترجيحاً بلا مرجّح، وهو محال،كالترجّح بلا مرجّح ـ أي وجود حادث من دون سبب وعلّة ـ فيرد عليه أوّلاً:أنّ المحال هو الثاني دون الأوّل، ألا ترى أنّك لو كنت عطشاناً وكان بين يديكثلاث كؤوس متساوية من جميع الجهات واخترت إحداها للشرب لكان منقبيل الترجيح من غير مرجّح، فلا يكون محالاً؟
وثانياً: سلّمنا امتناع الترجيح بلا مرجّح أيضاً، لكنّ المرجّح غير منحصربالمناسبة المزبورة كي يجب الالتزام بها، بل يكفي فيه وجود مرجّح ما، كما أنّكتختار «الزهراء» مثلاً اسماً لابنتك لأنّ هذه الكلمة ارتبطت بابنة النبيّ صلىاللهعليهوآله .
فتخصيص الواضع أيضاً كلّ لفظ بإزاء معناه يمكن أن يكون لجهة ما، مثلكون لفظ الماء أوّل ما خطر بباله حينما رأى المايع السيّال الخاصّ(2).
فما تشبّثوا به لإبطال دخل الوضع في الربط بين اللفظ والمعنى باطل، لعدماستحالة الترجيح من غير مرجّح أوّلاً، وعدم حصر المرجّح في التناسب
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 39.
- (2) هذا إذا اخترنا كون الواضع هو البشر في المبحث الآتي. منه مدّ ظلّه.
ج1
الذاتي ثانياً.
والحاصل: أنّ القول بالربط الذاتي بين اللفظ والمعنى بجميع احتمالاتهالأربعة باطل، وأنّ الربط بينهما ناشٍ عن الوضع.
(صفحه114)
في الواضع
الجهة الثانية: في الواضع
اختلفوا في أنّ الواضع هل هو اللّه سبحانه أو البشر؟
ذهب إلى الأوّل أكثر علماء العامّة والمحقّق النائيني رحمهالله من الإماميّة.
واستدلّوا عليه باُمور بعضها يثبت ـ على فرض تماميّته ـ أنّ اللّه تعالى هوالواضع، والبعض الآخر بصدد نفي واضعيّة البشر الذي يستنتج منه واضعيّةاللّه سبحانه وتعالى:
الأوّل: ما في بعض المطوّلات من الاستدلال عليه ببعض الآيات القرآنيّة:منها: قوله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الاْءَسْمَاءَ كُلَّهَا»(1).
فإنّ تعليم الأسماء متأخّر عن وضعها، فلا محالة تدلّ الآية على أنّ اللّهسبحانه وضع جميع الأسماء لمسمّياتها قبل آدم الذي هو أوّل بشر ثمّ علّمهإيّاه.
وفيه: أنّ ذيل الآية(2) دليل على أنّ المراد بالأسماء خصوص ذوي العقولمن المسمّيات، فلا ربط لها بالألفاظ أصلاً، بل ببعض المعاني.
على أنّ الآية في مقام إثبات فضل لآدم عليهالسلام ولا فضل في العلم بالألفاظ وأنّ
- (2) وهو قوله تعالى: «عَرَضَهُمْ» و«هَؤُلاَء» حيث قال: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِىبِأَسْماءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ». منه مدّ ظلّه.
ج1
هذا المائع السيّال اسمه الماء، وهذا الذي فوق رؤوسنا اسمه السماء، وهكذا.
وفي تحقيق معنى الآية أقوال مختلفة للمفسِّرين، سيّما العلاّمة الطباطبائي رحمهالله ،فإنّ له دقّةً قيّمة حول معنى الآية في تفسير الميزان.
ومنها: قوله تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَاخْتِلاَفُأَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ»(1) فإنّ كون اختلاف الألسنة آيةً له تعالى متوقّف علىارتباطه به لا بالبشر، ويؤيّده عطف الألوان على الألسنة، إذ لا ريب في أنّاختلافها بيده تعالى، فكذلك اختلاف الألسنة.
وفيه: أنّ وضع اللغات المختلفة آية له تعالى ولو كان الواضع هو الإنسان،لأنّ قدرته على الوضع لا يكون إلاّ من عند اللّه سبحانه، بل ليس الإنسان إلالربط المحض به تعالى، فصنعه آية له.
الثاني: ما في كلام المحقّق النائيني رحمهالله من أنّ البشر لو كان واضعاً لنقل فيالتاريخ، فإنّ المؤرِّخين الذين نقلوا في كتبهم الحوادث القليل الفائدة كيف يمكنأن يغفلوا عن هذه المسألة المهمّة التي عليها مدار التفهيم والتفهّم بسهولةويتوفّر الدواعي على نقلها؟!
فعدم النقل دليل على عدم كون الإنسان واضعاً، فلا محالة هو اللّه تعالى.
الثالث: ما في كلامه أيضاً، من أنّ الألفاظ غير متناهية، وكذلك المعاني(2)،
- (2) أمّا عدم تناهي الألفاظ فلأنّها تتركّب من الحروف، وكلّما تصوّرت من تركيبها تتمكّن من تصوّر مركّبآخر كما لا يخفى.
وأمّا عدم تناهي المعاني، فلأنّها لا تنحصر في المعاني الممكنة، بل تعمّ دائرة وضع الألفاظ الواجباتوالممتنعات أيضاً، كما نقول مثلاً: «شريك الباري، أو الجمع بين الضدّين أو النقيضين محال» فلفظ«محال» وضع للمعنى الذي يمتنع وجوده، فالمعاني التي تكون تحت دائرة الوضع لا تنحصر فيالممكن كي يقال: كيف يمكن عدم تناهيه، بل تعمّ الواجب والممتنع، وكذلك الموجود والمعدوم، ولريب في أنّ مجموع هذه المعاني، أعني المعاني المربوطة بالموجود والمعدوم والواجب والممكنوالممتنع غير متناهية. منه مدّ ظلّه.
(صفحه116)
فكيف يمكن إحاطة البشر الذي هو محدود وقدرته متناهية بهما حتّى يتحقّقبيده الوضع؟!
مع أنّه لو سلّم إمكان ذلك يبعّده أمران:
أ ـ أنّ تبليغ الوضع إلى عامّة البشر إمّا أن يكون دفعةً أو تدريجاً، والأوّلمحال عادةً، لبُعد بعض الأمكنة عن بعض، والثاني وإن كان ممكناً إلاّ أنّه لينفع، لأنّ الحاجة إلى تأدية المقاصد بالألفاظ تكون ضروريّة للبشر علىوجه يتوقّف عليها حفظ نظامهم، فيسأل عن كيفيّة تأدية مقاصدهم قبلوصول الوضع إليهم.
ب ـ أنّ الواضع لو كان هو البشر مثل يعرب بن قحطان، كما قيل، فنفسهذا الواضع كيف يُعلِم الناس حين الوضع أنّ اللفظ الفلاني وضعه للمعنىالفلاني، مع أنّه لم يمكن التفهيم والتفهّم بعدُ؟
توضيح ذلك: أنّه يحتاج حين الوضع إلى أن يقول: «أيّها الناس وضعتلفظ كذا بإزاء معنى كذا» مع أنّهم لا يفهمون معاني هذه الألفاظ بعدُ، ولوأغمضنا عن هذا وقلنا بإمكان قيام الإيماء والإشارة مقام هذه الألفاظ بأنيشير إلى ولده مثلاً ويقول: «زيد» من دون أن يحتاج إلى لفظي «أيّها الناس»و«وضعت» فهو وإن أمكن بالنسبة إلى المعاني الجزئيّة، إلاّ أنّه لا يمكن فيالمفاهيم الكلّيّة، كالماء والنار والحجر والشجر، فإنّ الواضع لو أحضر كأسوأشار إلى المائع الذي فيها وقال: «الماء» لما أفهم المقصود، لأنّه لا يريد وضعهذه اللفظة له، بل للماء الكلّي الذي ما في الكأس أحد مصاديقه فقط.