(صفحه176)
الإنسان والسواد والبياض وغيرها من المفاهيم مستقلّة ذاتاً، فإنّها تحضر فيالذهن بلا حاجة إلى أيّة معونة خارجيّة، سواء كانت في ضمن تركيب كلاميأم لم تكن، فظهر أنّ حال المفاهيم الإسميّة في عالم المفهوم والذهن حالالجواهر في عالم العين والخارج.
وثانيهما: ما لا استقلال له في ذلك العالم، بل هو متقوّم بالغير، كمعانيالحروف، فإنّها بحدّ ذاتها وأنفسها متقوّمة بالغير ومتدلّية بها، بحيث لاستقلال لها في أيّ وعاء من الأوعية التي فرض وجودها فيه، لنقصان فيذاتها، فعدم الاستقلاليّة من ناحية ذلك النقصان لا من ناحية اللحاظ فقط،فلذا لا تخطر في الذهن عند التكلّم بها وحدها، أي من دون التكلّم بمتعلّقاتها،فلو اُطلق كلمة «في» وحدها، أي من دون ذكرها في ضمن تركيب كلامي فليخطر منها شيء في الذهن.
فتبيّن أنّ حال المعاني الحرفيّة في عالم المفهوم، حال المقولات التسعالعرضيّة في عالم العين.
واتّضح من ضوء هذا البيان أنّ المفاهيم الاسميّة لها نحو تقرّر وثبوت فيوعاء العقل الذي هو وعاء الإدراك، سواء كان هناك لافظ ومستعمل أو لميكن، وسواء كان واضع أو لم يكن، فيكون استعمال ألفاظها موجباً لإخطارتلك المعاني في الذهن، سواء كانت مفردة أم في ضمن تركيب كلامي.
وهذا بخلاف معاني الحروف، فإنّها إيجاديّة، بمعنى أنّ استعمال ألفاظهموجب لإيجاد معانيها من دون أن يكون لمعانيها نحو تقرّر وثبوت مع قطعالنظر عن الاستعمال، بل توجد في موطن الاستعمال، وذلك ككاف الخطابوياء النداء، وما شابه ذلك، بداهة أنّه لو لا قولك «يا زيد» و«إيّاك» لما كانهناك نداء ولا خطاب، ولا يكاد يوجد معنى ياء النداء وكاف الخطاب إلاّ
ج1
بالاستعمال وقولك «يا زيد» و«إيّاك»، فنداء زيد وخطاب عمرو إنّما يوجدويتحقّق بنفس القول، فتكون ياء النداء وكاف الخطاب موجدة لمعنى لم يكنله سبق تحقّق، بل يوجد بنفس الاستعمال، لوضوح أنّه لا يكاد توجد حقيقةالمخاطبة والنداء بدون ذلك، فواقعيّة هذا المعنى وهويّته تتوقّف على الاستعمال،وبه يكون قوامه.
وهذا بخلاف معنى «زيد»، فإنّ له نحو تقرّر وثبوت في وعاء التصوّر معقطع النظر عن الاستعمال، ومن هنا صار استعماله موجباً لإخطار معناه،بخلاف معنى ياء النداء وكاف الخطاب، فإنّه ليس له نحو تقرّر وثبوت مع قطعالنظر عن الاستعمال.
نعم، مفهوم النداء ومفهوم الخطاب له تقرّر في وعاء العقل، إلاّ أنّه لم توضعلفظة «ياء» وكاف الخطاب بإزائه، بل الموضوع بإزاء ذلك المفهوم هو لفظة«النداء» ولفظة «الخطاب»، لا لفظة «يا» وكاف الخطاب، بل هما وضعتلإيجاد النداء والخطاب، وهذا في الجملة ممّا لا إشكال فيه.
إنّما الإشكال في أنّ جميع معاني الحروف تكون إيجاديّة أو لا؟
ظاهر كلام المحقّق صاحب الحاشية(1): هو اختصاص ذلك ببعض الحروف،وكان منشأ توهّم الاختصاص، هو تخيّل أنّ مثل «من» و«إلى» و«على»و«في» وغير ذلك من الحروف تكون معانيها إخطاريّة، حيث كان استعمالهموجباً لإخطار ما وقع في الخارج من نسبة الابتداء والانتهاء والاستعلاءوالظرفيّة، مثلاً في قولك: «سرت من البصرة إلى الكوفة» تكون لفظة «من»و«إلى» حاكية عمّا وقع في الخارج، كحكاية لفظ «زيد» عن معناه.
- (1) هداية المسترشدين في شرح معالم الدِّين 1: 145.
(صفحه178)
ولكنّ الذي يقتضيه التحقيق أنّ معاني الحروف كلّها إيجاديّة، حتّى ما أفادمنها النسبة.
وبيان ذلك: هو أنّ شأن أدوات النسبة ليس إلاّ إيجاد الربط بين جزئيالكلام، فإنّ الألفاظ بما لها من المفاهيم متباينة بالهويّة والذات، لوضوح مباينةلفظ «زيد» بما له من المعنى للفظ «القائم» بما له من المعنى، وكذا لفظ «السير»مباين للفظ «الكوفة» و«البصرة» بما لها من المعنى، وأداة النسبة إنّما وضعتلإيجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من المفهوم، على وجه يفيد المخاطبفائدة تامّة يصحّ السكوت عليها، فكلمة «من» و«إلى» إنّما جيئ بهما لإيجادالربط، وإحداث العلقة بين السير والبصرة والكوفة الواقعة في الكلام، بحيث لولا ذلك لما كان بين هذه الألفاظ ربط وعلقة أصلاً.
والحاصل: أنّ معاني الحروف إيجاديّة، بمعنى أنّ استعمال ألفاظها موجبلإيجاد معانيها من دون أن يكون لمعانيها نحو تقرّر وثبوت مع قطع النظر عنالاستعمال، بل توجد في موطن الاستعمال، نظير المعاني الإنشائيّة التي يكونوجودها بعين إنشائها، كإيجاد الملكيّة بقولنا: «بعت» حيث إنّه لم يكن للملكيّةسبق تحقّق مع قطع النظر عن الإنشاء.
بل المعاني الحرفيّة أدون من المعاني الإنشائيّة، فإنّ صيغ العقود وإناشتركت مع الحروف في إيجادها المعنى، إلاّ أنّها تفترق عنها أوّلاً: في أنّ المعنىالحرفي يكون قائماً بغيره، والمعنى الإنشائي يكون قائماً بنفسه، وثانياً: في أنّالمعنى الحرفي لا حقيقة له إلاّ الاستعمال، والمعنى الإنشائي له حقيقة اعتباريّةباقية بعد الاستعمال ما دام الاعتبار باقياً، بخلاف المعنى الموجد بالحرف، فإنّالمعنى الحرفي قراره وقوامه يكون في موطن الاستعمال، بحيث يدور مدارهحدوثاً وبقاءً.
ج1
وإلى ما ذكرناه من أنّ المعنى الحرفي إيجادي، أشارت الرواية المنسوبةإلىأمير المؤمنين عليهالسلام ، وهي: أنّ «الحرف ما أوجد معنى في غيره»(1).
ومن هنا أجاد أهل العربيّة عندما عبّروا في مقام التفسير عن المفاهيمالحرفيّة بأنّ كلمة «في» مثلاً للظرفيّة، ولم يقولوا بأنّ «في» هي الظرفيّة، كما هوديدنهم في مقام التعبير عن المفاهيم الاسميّة.
فإنّه مشعر بأنّ الظرفيّة التي هي معنى «في» ليست ظرفيّة مستقلّة، بل كلمة«في» وضعت لإفادة الظرفيّة بين زيد والدار مثلاً، وأمّا إذا اُطلقت كلمة «في»وحدها فلا معنى لها كما تقدّم.
فوزان المعاني الحرفيّة بالنسبة إلى المعاني الاسميّة وزان الألفاظ بالنسبة إلىالمعاني، إذ كما أنّ اللفظ يكون مغفولاً عنه وفانياً في المعنى بحيث لم يلتفتالمتكلِّم والمستمع إليه، بل يتخيّل المتكلِّم أنّه يلقي المعاني إلى المخاطب من دونوساطة الألفاظ، ويتخيّل المخاطب أيضاً أنّه يتلقّى المعاني بلا واسطة، كذلكالمعنى الحرفي يكون مغفولاً عنه وفانياً في المعنى الاسمي، فمعنى «من» و«إلى»مثلاً في قولنا: «سرت من البصرة إلى الكوفة» يكون فانياً في معنى السيروالبصرة والكوفة(2).
هذا ملخّص كلامه الطويل رحمهالله .
نقد نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله
ويرد عليه أوّلاً: أنّه لا ريب في أنّ لنا عند دخول زيد في المدرسة مثلثلاث واقعيّات: أحدها: «زيد» والثاني: «المدرسة» والثالث: «كون زيد في
- (1) بحار الأنوار 40:162، تاريخ أمير المؤمنين عليهالسلام ، الباب 93، في علمه وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله علّمه ألف باب.
- (2) فوائد الاُصول 1 و 2: 34.
(صفحه180)
المدرسة»، ولا فرق في ذلك بين ما إذا قيل: «زيد في المدرسة» أو لم يقل،ويؤيّده أنّا نختبر صدق قول القائل: «زيد في المدرسة» وكذبه بمطابقته للخارجوعدم مطابقته، ولو لم يكن للمعنى الحرفي، أعني «كون زيد في المدرسة»واقعيّة سوى الاستعمال لم يكن لاحتمال صدق تلك القضيّة وكذبها معنى.
نعم، واقعيّة كلّ شيء بحسبه، فإنّ الجوهر موجود في نفسه، وبعضالأعراض موجود في موضوع كالبياض، وبعضها يحتاج في وجوده إلىطرفين، كالعلم والظرفيّة، ولكن لكلّ منها واقعيّة وحقيقة.
والشاهد عليه أنّك لو قلت: «المدرسة ظرف زيد» لكان لنا مضافاً إلىحقيقة «زيد» و«المدرسة» واقعيّة ثالثة يدلّ عليها كلمة «ظرف» بلا إشكال،والمحقّق النائيني رحمهالله أيضاً يعترف به، لأنّ كلمة «الظرف» اسم، وهو رحمهالله قائلبكون معاني الأسماء إخطاريّة، فكذلك إذا قلنا: «زيد في المدرسة»، ضرورة أنّالتغيير في التعبير لا يعقل أن يوجب التغيير في الحقائق الخارجيّة.
وأمّا تشبيهه الحروف بصيغ العقود والإيقاعات فغاية ما يقتضيه تقسيمالحروف إلى قسمين: إخطاري، كقولنا: «سرت من البصرة إلى الكوفة»وإيجادي، كقول المولى: «سر من البصرة إلى الكوفة»، كما أنّ صيغ العقودوالإيقاعات بلفظ واحد على قسمين: قسم في مقام الإخبار، كقولك: «بعتداري»، مخبراً عن البيع الواقع أمسِ مثلاً، وقسم في مقام الإنشاء، كقولك عندإجراء صيغة البيع: «بعتك داري»، فإنّ الأوّل مبيّن للواقعيّة المتحقّقة قبلاً،والثاني موجد للتمليك الذي لم يكن له واقعيّة بعد.
فلو سلّمنا كون معاني الحروف إيجاديّة فلا مجال للقول به إلاّ في بعضها.
وثانياً: ما معنى إيجاد الربط بالحروف؟