(صفحه218)
فلو تلفّظت بقولك: «بعت» في مقام الإنشاء لتحقّق وجود إنشائي للملكيّة،ولو تلفّظت به ثانياً أو تلفّظ به شخص آخر لتحقّق لها وجود إنشائي آخر(1).
نقد مسلك المحقّق الخراساني رحمهالله حول حقيقة الإنشاء
وفيه: ـ مضافاً إلى ما سيأتي من الإشكال في تحقّق وجود إنشائي لمثلالطلب من الاُمور الواقعيّة(2) ـ أنّ كلامه يستلزم أن يكون للعقلاء في البيعالجامع لشرائطه اعتباران: اعتبار الوجود الإنشائي للملكيّة، واعتبارالملكيّة(3)، وهو خلاف الوجدان، لأنّا لا نجد لهم إلاّ اعتباراً واحداً، وهواعتبار الملكيّة فقط. هذا.
كلام المحقّق الاصفهاني رحمهالله في المقام
وللمحقّق الشيخ محمّد حسين الاصفهاني رحمهالله بيان آخر في المقام، ويدّعي أنّكلام صاحب الكفاية أيضاً يحمل عليه، فإليك عين بيانه:
قوله: وأمّا الصيغ الإنشائيّة فهي على ما حقّقناه في بعض فوائدنا موجدة
- (1) كفاية الاُصول: 87 ، والفوائد «المطبوعة في آخر حاشية فرائد الاُصول»: 285.
- (2) توضيحه: أنّ المحقّق الخراساني رحمهالله عدل عن مسلك المشهور في حقيقة الإنشاء إلى ما اختاره من أنّالإنشاء «هو القول الذي يقصد به إيجاد المعنى في نفس الأمر» ليعمّ مثل بيع الغاصب وإنشاء الطلب، فليرد عليه ما أورد عليهم.
وهو وإن كان حقّاً بالنسبة إلى مسألة بيع الغاصب، إلاّ أنّه لا يصحّ بالنسبة إلى إنشاء الطلب، فإنّ الاُمورالواقعيّة لا يمكن إيجادها بوجود إنشائي، وإن ذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى إمكانه في مبحثالأوامر، والبحث معه من هذه الجهة موكول إلى ذلك المبحث. م ح ـ ى.
- (3) وعليه فلا يخرج بيع الغاصب لنفسه عن تعريف الإنشاء، لأنّ العقلاء وان لا يعتبروا فيه الملكيّة، إلاّ أنّهميعتبرون وجودها الإنشائي بالصيغة الجارية على فم الغاصب. م ح ـ ى.
ج1
لمعانيها في نفس الأمر(1) إلخ.
بل التحقيق أنّ وجودها وجود معانيها في نفس الأمر، بيانه أنّ المراد منثبوت المعنى باللفظ إمّا أن يراد ثبوته بعين ثبوت اللفظ بحيث ينسب الثبوتإلى اللفظ بالذات وإلى المعنى بالعرض، وإمّا أن يراد ثبوته منفصلاً عن اللفظبآليّة اللفظ بحيث ينسب الثبوت إلى كلّ منهما بالذات، لا مجال للثاني، إذالوجود المنسوب للماهيّات بالذات منحصر في العيني والذهني، وسائر أنحاءالوجود من اللفظي والكتبي وجود بالذات للّفظ والكتابة، وبالجعل والمواضعةوبالعرض للمعنى، ومن الواضح أنّ آليّة وجود اللفظ وعلّيّته لوجود المعنىبالذات لابدّ من أن يكون في أحد الموطنين من الذهن والعين، ووجود المعنىبالذات في الخارج يتوقّف على حصول مطابقه في الخارج أو مطابق ما ينتزععنه، والواقع خلافه، إذ لا يوجد باللفظ موجود آخر يكون مطابقاً للمعنى أومطابقاً لمنشأ انتزاعه، ونسبة الوجود بالذات إلى المعنى مع عدم وجود مطابقهأو مطابق منشأه غير معقول، ووجوده في الذهن بتصوّره لا بعلّيّة اللفظلوجوده الذهني، والانتقال من سماع الألفاظ إلى المعاني لمكان الملازمة الجعليّةبين اللفظ والمعنى، مع أنّ ذلك ثابت في كلّ لفظ ومعنى ولا يختصّ بالإنشائي،فالمعقول من وجود المعنى باللفظ هو الوجه الأوّل، وهو أن ينسب وجودواحد إلى اللفظ والمعنى بالذات في الأوّل وبالعرض في الثاني، وهو المراد منقولهم: «إنّ الإنشاء قول قصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر».
وإنّما قيّدوه بنفس الأمر مع أنّ وجود اللفظ في الخارج وجود للمعنى فيه
(صفحه220)
أيضاً بالعرض(1)، تنبيهاً على أنّ اللفظ بواسطة العلقة الوضعيّة وجود المعنىتنزيلاً في جميع النّشئات(2)، فكأنّ المعنى ثابت في مرتبة ذات اللفظ بحيث لينفكّ عنه في مرحلة من مراحل الوجود، والمراد بنفس الأمر حدّ ذات الشيءمن باب وضع الظاهر موضع المضمر.
فإن قلت: هذا المطلب جارٍ في جميع الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من دوناختصاص بالإنشائيّات.
قلت: الفرق أنّ المتكلّم قد يتعلّق غرضه بالحكاية عن النسبة الواقعة فيموطنها باللفظ المنزّل منزلتها، وقد يتعلّق غرضه بإيجاد نفس هذه النسبةبإيجاد اللفظ المنزّل منزلتها، مثلاً مفاد «بعت» إخباراً وإنشاءً واحد، وهيالنسبة المتعلّقة بالملكيّة، وهيئة «بعت» وجود تنزيلي لهذه النسبة الإيجاديّةالقائمة بالمتكلّم والمتعلّقة بالملكيّة، فقد يقصد وجود تلك النسبة خارجبوجودها التنزيلي الجعلي اللفظي، فليس وراء قصد الإيجاد بالعرض وبالذاتأمر آخر، وهو الإنشاء، وقد يقصد زيادةً على ثبوت المعنى تنزيلاً الحكاية عنثبوته في موطنه أيضاً، وهو الإخبار، وكذلك في صيغة «افعل» وأشباهها، فإنّهيقصد بقوله: «اضرب» ثبوت البعث الملحوظ نسبةً بين المتكلّم والمخاطبوالمادّة، فيوجد البعث في الخارج بوجوده الجعلي التنزيلي اللفظي، فيترتّبعليه إذا كان من أهله وفي محلّه ما يترتّب على البعث الحقيقي الخارجي مثلاً،وهذا الفرق بلحاظ المقابلة بين المعاني الخبريّة والإنشائيّة. فلا ينتقضباستعمال الألفاظ المفردة في معانيها، فإنّها كالإنشائيّات من حيث عدم النظر
- (1) فليس وجود المعنى أمراً اعتباريّاً حتّى يحتاج شمول الثبوت له إلى قيد «في نفس الأمر». م ح ـ ى.
- (2) أي نشأة الماهيّة والوجود. منه مدّ ظلّه.
ج1
فيها إلاّ إلى ثبوتها خارجاً ثبوتاً لفظيّاً، غاية الأمر أنّها لايصحّ السكوتعليها، بخلاف المعاني الإنشائيّة المقابلة للمعاني الخبريّة.
وهذا أحسن ما يتصوّر في شرح حقيقة الإنشاء، وعليه يحمل ما أفادهاُستاذنا العلاّمة، لا على أنّه نحو وجود آخر في قبال جميع الأنحاء المتقدّمة، فإنّهغير متصوّر(1)، إنتهى.
هذا كلام المحقّق الاصفهاني رحمهالله ، وحاصله: أنّ الوجود الإنشائي للمعنى وراءاللفظي غير متصوّر، إذ أنحاء الوجود منحصرة في أربعة، العيني والذهنيوالكتبي واللفظي، فأراد المحقّق الخراساني رحمهالله من الوجود الإنشائي الوجوداللفظي.
نقد كلام المحقّق الاصفهاني رحمهالله
وفيه: أنّه لو أراد ظهور كلام صاحب الكفاية في ذلك فوجدان من راجعكتابيه يشهد بخلافه، بل قوله في الكفاية(2): «وأمّا الصيغ الإنشائيّة فهي على محقّقناه في بعض فوائدنا موجدة لمعانيها في نفس الأمر» ظاهر في كون اللفظعلّة لتحقّق المعنى الإنشائي، لا أنّ وجود المعنى وجود اللفظ.
وإن أراد أنّ كلامه مع حفظ ظاهره غير متصوّر فلابدّ من توجيهه وحملهعلى ما اختاره، ففيه أنّه لا وجه لعدم كون الوجود الإنشائي متصوّراً إلتقسيمهم الوجود إلى الأقسام الأربعة من دون أن يكون في كلامهم منالوجود الإنشائي عين ولا أثر، وهذا لا يجديه، لأنّ المقسم في كلامهم هو
- (1) نهاية الدراية 1: 273.
- (2) وكذا قوله في الفوائد: «إنّ الإنشاء هو القول الذي يقصد به إيجاد المعنى في نفس الأمر». م ح ـ ى.
(صفحه222)
الوجود الواقعي، فلا يكون نافياً لما يدّعيه المحقّق الخراساني من تحقّق الوجودالإنشائي في الاعتباريّات.
كيف يمكن القول بانحصار الوجود في أربعة، مع أنّ الملكيّة المتحقّقة بسببالحيازة أو الإرث(1) ليست منها، ضرورة عدم كونها أمراً خارجيّاً ولا ذهنيّولا كتبيّاً ولا لفظيّاً، ومع ذلك لا يمكن إنكارها في وعاء الاعتبار، فلا محالةكان المقسم في كلامهم هو الوجودات الواقعيّة، فلا ينافي تحقّق قسم خامسمن الوجود يسمّى وجوداً إنشائيّاً، لكن ظرف تحقّقه الاعتبار لا الواقع.
ولأجل هذا عدل المحقّق الخراساني رحمهالله عن التعبير بالواقع إلى التعبير بنفسالأمر، إذ لو قال: «الصيغ الإنشائيّة موجدة لمعانيها في الواقع» لم يشملالاعتباريّات التي منها الإنشاء، بخلاف «نفس الأمر» فإنّها أعمّ من الواقعوالاعتبار.
وبهذا ظهر فساد ما قاله المحقّق الاصفهاني أيضاً من أنّ التقييد بنفس الأمرلأجل التنبيه على أنّ اللفظ بواسطة العلقة الوضعيّة وجود المعنى تنزيلاً فيجميع النشآت، والمراد بنفس الأمر حدّ ذات الشيء.
إذ لو كان هذا هو المراد بنفس الأمر وكان التقييد به لأجل كون اللفظوجوداً تنزيليّاً لوجود المعنى في جميع النشآت لم يكن للعدول عن التعبيربالواقع إليه وجه، لأنّ اللفظ من الاُمور الواقعيّة، فكذلك المعنى الذي يكونبزعمه متّحداً مع اللفظ.
فلا محالة كان المراد بنفس الأمر ما ذكرناه من أنّه أعمّ من الواقع
- (1) قيّد الملكيّة بكونها مسبّبة عن الحيازة أو الإرث، لأنّها لو كانت مسبّبة عن الصيغة لأمكن تخيّل كونها منالوجودات اللفظيّة. م ح ـ ى.