ج1
قلت: تقدّم الحقيقة على المجاز مسلّم فيما إذا كان المجاز من المجازاتالمتعارفة، بخلاف المجاز المشهور الذي يساوي احتماله لاحتمال الحقيقة إذا اُطلقاللفظ بلا قرينة لأجل اُنس الذهن به كاُنسه بالحقيقة، والمقام من هذا القبيل،إذ لا يمكن إنكار كون هذه الألفاظ مجازات مشهورة في المعاني الجديدةالشرعيّة وإن أمكن إنكار كونها حقيقةً فيها.
ولكن ذهب المحقّق النائيني وتبعه بعض الأعلام إلى أنّه لا ثمرة للمسألةأصلاً، واستدلاّ عليه بأنّه ليس لنا مورد نشكّ فيه في المراد الاستعمالي من هذهالألفاظ، سواء قلنا بثبوت الحقيقة الشرعيّة أم لم نقل، لأنّ الحقيقة الشرعيّةوإن فرض أنّها لم تثبت إلاّ أنّه لا ريب في صيرورة هذه الألفاظ حقيقةً فيالمعاني الشرعيّة في عرف المتشرّعة بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فإذن لابدّ من حمل ماشتمل على ألفاظ العبادات من أخبار الأئمّة عليهمالسلام ـ وهي كثيرة جدّاً بالنسبة إلىالأحاديث النبويّة ـ على المعاني الشرعيّة، لكونهم من المتشرّعة، بل فيرأسهم.
بقي الكلام في ألفاظ الكتاب والأحاديث النبويّة، وحيث إنّ ألفاظ الكتابوأكثر أحاديثه صلىاللهعليهوآله واصلة إلينا بواسطة الأئمّة عليهمالسلام فلا محالة هي أيضاً تحملعلى المعاني الشرعيّة، وأمّا ما وصل إلينا منه صلىاللهعليهوآله من غير طريقهم عليهمالسلام فإمّا ليشتمل على ألفاظ العبادات أو يكون معلوم المراد، فليس لنا حديث نبويّمشتمل على لفظ الصلاة والزكاة والحجّ ونحوها مجهول المراد.
فلا ثمرة للنزاع في هذه المسألة أصلاً، بل هو بحث علمي فقط(1).
- (1) أجود التقريرات 1: 48، ومحاضرات في اُصول الفقه 1: 142.
(صفحه304)
وفيه ـ مضافاً إلى أنّ ألفاظ الكتاب وصلت إلينا بالتواتر(1) لا بأخبار
- (1) قد أجمع كافّة المسلمين على أنّ القرآنيّة لا تثبت إلاّ بالتواتر عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، والشاهد عليه أنّ المالكيّةوسائر من قال بعدم كون البسملة التي في أوائل السور من القرآن استدلّوا عليه بعدم ثبوتها بالتواتر،وأجاب الآخرون عنه بأنّه كيف يمكن إنكار تواترها وهي ثابتة في جميع المصاحف التي كتبت في صدرالإسلام، مع أنّ المسلمين كانوا ملتزمين بأن لا يكتبوا في القرآن إلاّ ما هو منه.
فترى أنّ الاستدلال والجواب يحكيان عن تسالم الطرفين على عدم ثبوت القرآن إلاّ بالتواتر.
وأيضاً استشكل السيوطي في كتاب «الإتقان في علوم القرآن» على ما نسب إلى ابن مسعود من أنّه قالبعدم كون الفاتحة والمعوّذتين اللّتين في آخر الكتاب منه، بأنّ إنكار كونها من القرآن مع ثبوتها بالتواتريوجب الكفر، ثمّ قال: فلابدّ إمّا من توجيه كلام ابن مسعود أو القول بكذب النسبة إليه.
وليس انحصار ثبوتها بالتواتر لأجل كونه كلام اللّه تعالى، فإنّ الحديث القدسي أيضاً كلامه مع عدماشتراط التواتر فيه، ولا لكونه معجزة فقط، فإنّ سائر معجزات النبيّ صلىاللهعليهوآله تثبت بغير التواتر أيضاً، بللأجل مزيّة مختصّة بالقرآن، وهي أنّه معجزة خالدة باقية، كافل لسعادة جميع البشر إلى يوم القيامة،ومتحدٍّ بقوله ـ في سورة البقرة، الآية 23 ـ : «وَإِنْ كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْمِثْلِهِ» سيّما أنّه كان ينطق به رجل اُمّي في عصر بلغت فيه الفصاحة والبلاغة كمالهما، وسيّما أنّ إطلاقالسورة يشمل أصغر السور حتّى مثل سورة الكوثر، وما هذا شأنه ودعواه يكون لا محالة متواترعنه صلىاللهعليهوآله ، لتوفّر الدواعي على نقله، حتّى من قبل الكفّار والمشركين الذين كانوا بصدد ردّه والإتيان بمثلهأو بمثل سورة منه، فضلاً عن المسلمين، وأمّا السماع من المعصومين عليهمالسلام فلا تصل النوبة إليه، لكونهمتواتراً قبله بين جميع المسلمين: الشيعة القائلين بإمامتهم عليهمالسلام وأهل السنّة الذين لا يقولون بها.
بل صيرورته كتاباً في زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ بمعنى أنّ جمعه وتأليفه وتعيين عدد آيات كلّ سورة وأنّ آية كذجزء لسورة كذا بعد آية كذا، كان في عصره صلىاللهعليهوآله ـ إنّما تثبت بالتواتر أيضاً، لعين ما تقدّم في ثبوت أصلالقرآنيّة به.
وأمّا ما روى من أنّ عليّاً عليهالسلام أو أبا بكر أو عثمان جمع القرآن فلا يرتبط بهذا الجمع الواقع في زمنالنبيّ صلىاللهعليهوآله ، فإنّ المراد بجمع عليّ عليهالسلام جمعه تمام القرآن مع بيان ما له دخل في المراد في ذيل كلّ آية،كالتفسير والتأويل وشأن النزول ونحوها، وبجمع أبي بكر جمعه في القرطاس بعدما كتب بعضه علىجلد الحيوانات وبعضه على قشر الأشجار ونحوها، ويؤيّده ما روي من طريق أهل السنّة من أنّ «أوّل منجمع القرآن في القرطاس أبو بكر»، وبجمع عثمان جمعه الناس على قراءة واحدة، فإنّه بعدما تكثّرتالقراءات جمعهم على قراءة واحدة وأحرق ما كان من القرآن مكتوباً بغيرها.
فتحصّل أنّ القرآنيّة وكذا عدد آيات كلّ سورة وتعيين جزئيّة الآيات لسورها وبيان مكان كلّ آية منالسورة كلّها تثبت بالتواتر المتّصل بزمان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله . منه مدّ ظلّه.
ج1
الأئمّة عليهمالسلام ، لعدم حجّيّة خبر الواحد فيها، ولذا نقول بكونه قطعي السند، ولعلّالمراد معاني الكتاب والتعبير بألفاظه من طغيان القلم ـ أنّ دعوى عدم ورودحديث نبويّ عن غير طرق الأئمّة عليهمالسلام مشتمل على ألفاظ العبادات مجهولالمراد، مجازفة، لتوقّفها على إحاطة كاملة على كتب الحديث المؤلَّفة من قبلالشيعة وأهل السنّة، مع أنّ الإحاطة على جميعها لصعب جدّاً، فإنّ بعضها مثل«كنز العمّال» و«وسائل الشيعة» يكون مطبوعاً في مجلّدات كثيرة ضخمة.
على أنّ دعوى لزوم حمل كلّ ما ورد بواسطتهم عليهمالسلام من الأحاديث النبويّةعلى المعاني الجديدة الشرعيّة فاسدة، لعدم الفرق بين ما يكون مرويّاً بطرقهمأو بطرق غيرهم من حيث المفاد والمراد، وإن كان صدق الراوي في الأوّلمقطوعاً وفي الثاني مشكوكاً.
نعم، إذا كان روايتهم عليهمالسلام عنه صلىاللهعليهوآله بنحو النقل بالمعنى أو في مقام بيان الحكمأو لأجل الاستشهاد على كلامهم فلابدّ من حملها على المعاني الشرعيّة، لمعرفت من صيرورة ألفاظ العبادات حقيقةً فيها عند المتشرّعة الذين فيرأسهم الأئمّة المعصومون عليهمالسلام .
وأمّا إذا كان روايتهم عليهمالسلام مجرّد النقل عنه صلىاللهعليهوآله فلا موجب لحملها علىالمعاني الشرعيّة ما لم يثبت كون ألفاظ العبادات حقيقةً فيها في زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله ،وهذا وإن كان نادراً لكون أكثر ما نقلوا عنه صلىاللهعليهوآله لأجل الاستشهاد أو بيانالحكم، إلاّ أنّه يكفي في تحقّق الثمرة للبحث.
فما ادّعاه المحقّق النائيني وبعض الأعلام من عدم ترتّب ثمرة عليه أصلممنوع.
والحقّ في المسألة ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من لزوم حمل الألفاظالواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغويّة مع عدم الثبوت، وعلى
(صفحه306)
معانيها الشرعيّة على الثبوت فيما إذا علم تأخّر الاستعمال، وأمّا إذا لم يعلم ذلكفاللفظ مجمل، إذ لا طريق إلى المعنى اللغوي ولا الشرعي.
وذهب بعضهم إلى حمله حينئذٍ على المعنى الشرعي، لأصالة تأخّرالاستعمال، والظاهر أنّ مرادهم بها أصالة تأخّر الحادث.
وفيه: أنّها ليس أصلاً عقلائيّاً، ضرورة أنّا إذا شككنا في أنّ زيداً هل جاءمن السفر يوم الخميس أو الجمعة لا يحكم العقلاء بتأخّر المجيء عن الخميسكما هو ظاهر.
وإن اُريد بها الاستصحاب، فإن قصد استصحاب نفس تأخّر الحادث فهولم يكن متيقّناً في زمان حتّى يستصحب، لكونه مشكوكاً من الأزل، وإن قصداستصحاب عدم تحقّقه فليس حكماً شرعيّاً ولا موضوعاً ذا أثر شرعي. نعم،له ملازم عقليّ ذو أثر، فإنّ عدم تحقّق الاستعمال إلى زمان الوضع ملازملتأخّره عنه، ويترتّب عليه لزوم حمل كلامه صلىاللهعليهوآله على معناه الشرعي.
بل يمكن الإشكال فيه أيضاً، لأنّ لزوم حمل كلام الشارع على معناهالشرعي أثر عقليّ للتأخّر، لعدم وروده في دليل شرعي أصلاً، فهو أثر عقليلملازم المستصحب.
على أنّه لو فرض جريان الاستصحاب في المقام فلا يجري إلاّ في صورةواحدة، وهي ما إذا علم تاريخ الوضع وجهل تاريخ الاستعمال وقلنا بعدمجريان الاستصحاب فيما علم تاريخه، وإلاّ فلو جهل تاريخهما أو قلنا بجريانالاستصحاب في المعلوم كالمجهول لجرى الاستصحاب في كليهما ووقعالتعارض بينهما.
وذهب بعض آخر ـ فيما إذا لم يعلم تأخّر الاستعمال ـ إلى حمله على المعنى
ج1
اللغوي، لأصالة عدم النقل.
وقد مرّ أنّ أصالة عدم النقل وإن كانت أصلاً عقلائيّاً إلاّ أنّ مورده ما إذشكّ في أصل النقل لا في تقدّمه وتأخّره.
فتلخّص من جميع ما ذكرناه: أنّ البحث عن الحقيقة الشرعيّة بالطريقةالمشهورة بينهم وإن لم يكن له أساس أصلاً بملاحظة ما قدّمناه من الاُمورالثلاثة، إلاّ أنّه على فرض صحّته لا يخلو عن الثمرة وإن كانت نادرة.
هذا تمام الكلام في الحقيقة الشرعيّة.