(صفحه48)
الذي يبحث فيه عن الكرة الأرضيّة، فيترتّب عليه معرفة جبالها، غاباتها،بحارها، وسائر أحوالها من حيث الكمّية والكيفيّة والوضع والأين. ولا يترتّبعلى هذين العلمين غرض خارجي.
ثمّ قال: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله صحيح بالنسبة إلى القسم الأوّلفقط، وأمّا القسم الثاني فلابدّ من القول بكون التمايز فيه إمّا بالذات أوبالموضوع، ولا ثالث لهما(1)، لعدم غرض خارجي له ما عدى العرفانوالإحاطة، ليكون التمييز بذلك الغرض الخارجي(2).
هذا حاصل إشكال المحقّق الخوئي على المحقّق الخراساني رحمهالله .
وفيه: أنّه لا فرق بين القسمين من العلوم عندنا، لأنّ لكلّ من العلوم سواءكان من القسم الأوّل أو الثاني غرضاً باعثاً على تدوينه مغايراً للغرض الداعيإلى تدوين العلم الآخر، فكما أنّ لعلم النحو غرضاً خارجيّاً، كذلك للجغرافيأيضاً غرض خارجي مغاير له، لكن واقعيّة كلّ شيء بحسبه، فواقعيّة العلم إنّمهي بكونه متحقّقاً في ظرفه، فإذا قلنا: «زيد عالم» وكان كذلك بحسب الواقع،فهل يمكن أن يقال: ليس له حقيقة وواقعيّة؟ أو يمكن أن يقال: ليس للوجودالذهني حقيقةٌ أصلاً؟ أو له أيضاً واقعيّة، كما أنّ الوجود الخارجي كذلك، لكنواقعيّة الأوّل إنّما هي بتحقّقه في الذهن، وواقعيّة الثاني بوجوده في الخارج.
فلو كان تمايز العلوم بتمايز الأغراض فلا فرق بين ما كان له غرض عمليوما ليس له إلاّ غرض علمي.
- (1) لابدّ من أن يكون هذا من قبيل الحصر الإضافي في مقابل الغرض، لأنّه«مدّ ظلّه» صرّح في صدر كلامهبأنّ التمايز إمّا بالذات أو بالموضوع أو بالمحمول، وكذا قال في ذيل كلامه: كما أنّه قد يمكن الامتيازبالمحمول. م ح ـ ى.
- (2) محاضرات في اُصول الفقه 1: 31.
ج1
الثالث: أنّ صحّة كون تمايز العلوم بتمايز الأغراض تبتني على أمرين:
أ ـ وحدة الغرض المترتّب على كلّ علم، إذ لو أمكن تعدّد الغرض فلا معنىلامتياز العلوم بالأغراض. ووحدة الغرض وإن كانت كالمتسالم عليه بينهم إلأنّه لا دليل عليها كما تقدّم في البحث عن دليل المشهور لإثبات وحدةالموضوع(1).
ب ـ أن لا يكون في المرتبة المتقدِّمة على الغرض وجه به يمتاز العلومبعضها عن بعض، وإلاّ حصل التمايز في تلك الرتبة ولا تصل النوبة إلىالغرض.
فتأمّل، كي يتّضح لك أنّه هل يوجد في الرتبة المتقدّمة على الغرض وجهالتمايز أم لا؟
3ـ نظريّة الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في ما به يتمايز العلوم
وذهب سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» إلى أنّ تمايز العلوم بالسنخيّةالذاتيّة المتحقّقة بين مسائلها، فإنّك عرفت(2) أنّ بين مسائل كلّ علم سنخيّةذاتيّة، ولا سنخيّة بين مسائل علمين.
ألا ترى أنّ قول النحاة: «كلّ فاعل مرفوع» يسانخ قولهم: «كلّ مفعولمنصوب»، ولا يسانخ قول الفقهاء: «الميتة محرّمة»؟
ولا يصحّ السؤال عن علّة هذا التناسخ، لأنّه ذاتي والذاتي لا يعلّل، فكما ليصحّ السؤال عن علّة كون الإنسان ناطقاً أو حيواناً، فكذلك لا يصحّ السؤالعن علّة وجود السنخيّة بين مسائل العلم.
(صفحه50)
وبالجملة: المسانخة بين مسائل كلّ علم توجب امتيازه عن سائر العلوم،ولا ترتبط هذه السنخيّة بالموضوعات، لأنّا أنكرنا افتقار العلم إلى الموضوع،ولا بالأغراض، ضرورة أنّا ندرك السنخيّة بين مسائل النحو مثلاً، ولو لم يكنله غرض أصلاً أو جهلنا بغرضه فرضاً، وهذا كاشف عن ارتباط السنخيّةبذوات المسائل لا بالغرض.
وتداخل علمين في بعض المسائل بأن تدخل مسألة في علمين لا يضرّ بمذكر(1)، لأنّ وجود السنخيّة بين مسألة اُصوليّة مثلاً وسائر مسائل علمالاُصول لا ينفي وجود السنخيّة بينها وبين مسائل علم آخر.
فقولنا: «الأمر يدلّ على الوجوب» مسألة اُصوليّة من طرف، ولغويّة منطرف آخر، لكونها مناسبةً ومسانخةً لمسائل كلا العلمين.
فمنشأ وحدة العلوم وكذلك منشأ تمايزها إنّما هو السنخيّة الذاتيّة المتحقّقةبين مسائل كلّ علم.
هذا حاصل ما ذهب إليه الإمام«مدّ ظلّه» في المقام(2).
لا يقال: السنخيّة ترتبط إمّا بموضوعات المسائل، أو بمحمولاتها، أوباشتراكها في الغرض المترتّب عليها الذي يعبّر عنه بغرض العلم(3)، لأنّمسائل العلوم مركّبة عن هذه الاُمور الثلاثة فقط.
فلابدّ من القول بأنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات كما ذهب إليه المشهور
- (1) وتداخل علمين لا يتّفق إلاّ في قليل من المسائل. منه مدّ ظلّه.
- (3) ففي علم النحو مثلاً تحقّقت السنخيّة بين الفاعل والمفعول والمضاف إليه على الأوّل، وبين المرفوعيّةوالمنصوبيّة والمجروريّة على الثاني، وترتبط بالغرض المترتّب عليه، وهو «صون اللسان عن الخطأ فيالمقال» على الثالث. م ح ـ ى.
ج1
على الأوّل، وبتمايز المحمولات على الثاني، وبتمايز الأغراض كما ذهب إليه المحقّقالخراساني رحمهالله على الثالث، ولا يتصوّر أمر رابع.
فإنّه يقال أوّلاً: لا ترتبط السنخيّة بواحد من الاُمور المذكورة، بل ترتبطبنفس المسائل التي ركّبت من الموضوعات والمحمولات والنسب، فالسنخيّةالمتحقّقة بين مسائل النحو مثلاً مربوطة بمجموع «الفاعل مرفوع» و«المفعولمنصوب» و«المضاف إليه مجرور».
وثانياً: لابدّ من القول بأنّ التمايز بنفس السنخيّة، ولو كان ملاكها هوالموضوع أو المحمول أو الاشتراك في الغرض، لأنّ البرهان في المقام من قبيلالإنّ لا اللمّ.
توضيح ذلك: أنّ الاشتراك في الغرض مثلاً وإن كان علّة لتحقّق السنخيّةبين المسائل، إلاّأنّا نصل إليه من طريق السنخيّة، لكونها أوضح منه، ألا ترىأنّه لو لم يكن لعلم النحو غرض، أو جهلنا به لتحقّقت السنخيّة أيضاً بين قولالنحاة: «الفاعل مرفوع» و«المفعول منصوب».
وينبغي ذكر نكتة في المقام، وهو أنّ الإمام«مدّ ظلّه» استشكل على القول بكونالأغراض ملاكاً لتمايز العلوم، بأنّ الأغراض متأخّرة عن مسائل العلوم، وليمكن تمييز المتقدّم بما هو متأخّر.
وقد عرفت(1) أنّه ناشٍ عن الخلط بين العلّة الغائيّة بوجودها الخارجيوبوجودها الذهني، فإنّ المتأخّر عن العلوم إنّما هو الغاية الخارجيّة، وأمّالغاية الذهنيّة التي تكون غرضاً داعياً إلى التدوين فهي متقدّمة عليها.
لكن تقدّم الغرض على العلم لا يوجب أن يكون التمايز بين العلوم
(صفحه52)
بالأغراض، لأنّ السنخيّة أوضح من الغرض كما تقدّم آنفاً، فلابدّ من أن يكونالتمايز بها كما قال الإمام«مدّ ظلّه».
4ـ نظريّة الاُستاذ البروجردي رحمهالله في تمايز العلوم
وذهب سيّدنا الاُستاذ آية اللّه العظمى البروجردي رحمهالله إلى أنّ تمايز العلومبتمايز الجامع لمحمولات مسائلها(1).
ثمّ ادّعى أنّ هذا ما اختاره المشهور أيضاً، لأنّهم ذهبوا إلى أنّ التمايز بتمايزالموضوعات، وأرادوا بها جامع المحمولات.
وذكر لإثبات كلا الأمرين خمس مقدّمات ترتبط اثنتان منها بدعواهالاُولى، وثلاث بدعواه الثانية:
المقدّمة الاُولى: لا يخفى أنّا إذا راجعنا كلّ واحد من العلوم المدوّنة،وقصرنا النظر على نفس مسائله، من غير التفات إلى ما يكون خارجاً منذات المسائل من المدوّن والأغراض ونحوهما، علمنا علماً وجدانيّاً باشتراكجميع تلك المسائل المتشتّتة في جهة وحيثيّة لا توجد هذه الجهة في مسائلسائر العلوم، وتكون هذه الجهة جامعة بين تلك المسائل، وبسببها يحصل الميزبين مسائل هذا العلم، وبين مسائل سائر العلوم، وكذلك وجدنا في كلّ مسألةمن مسائل هذا العلم جهة وخصوصيّة، تميّز هذه المسألة من غيرها منمسائل هذا العلم. مثلاً إذا راجعنا مسائل علم النحو، وقطعنا النظر عن مدوّنه
- (1) وهذا غير ما نفاه المحقّق الخراساني رحمهالله بقوله: «تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلىالتدوين لا الموضوعات ولا المحمولات» لأنّ ظاهره أنّه أراد نفس محمولات المسائل بكثرتها،لا الجامع بينها، فإنّ قوله بعد ذلك: «وإلاّ كان كلّ باب بل كلّ مسألة من كلّ علم علماً على حدة» لا يلائمإرادة الجامع، لأنّه شيء واحد، ولا يستلزم جعل التمايز به كون كلّ باب علماً على حدة كما لا يخفى.منه مدّ ظلّه.