وإن أراد به التمايز بالجنس والفصل فهو مغاير لما ذكره في مقام التعليموالتعلّم من أنّ حقيقة كلّ علم حقيقة اعتباريّة، وليست وحدتها وحدةبالحقيقة والذات، ليكون تمييزه عن غيره بتمام الذات أو بالفصل.
والحاصل: أنّه إن أراد من التمايز بالذات التمايز بالسنخيّة الذاتيّة بينالمسائل فلابدّ من ذكره في مقام التعليم والتعلّم أيضاً، وإن أراد به التمايزبالجنس والفصل فلا مجال له في العلوم، لأنّ تركّبها تركّب اعتباري، وليس لهجنس وفصل.
وثانياً: أنّه مثّل لهذا القسم من العلوم بمثالين للتمايز بالذات أو بالموضوع،وبمثال ثالث للتمايز بالمحمول من دون أن يذكر ضابطة للمسألة.
فيتوجّه إليه سؤالان:
1ـ ما ضابطة كون التمايز بالذات أو بالموضوع، وما ضابطة كونه بالمحمول؟
2ـ ما معنى كون التمايز بالذات أو بالموضوع في القسم الأوّل؟ هل اُريد أنّفي هذا القسم جهتين للتمايز: الذات، والموضوع، وبكلّ منهما يمتاز كلّ علم منعلوم هذا القسم عن سائر العلوم التي لا يترتّب عليها غرض خارجي، أواُريد أنّ التمايز في بعض أفراد هذا القسم بالذات وفي بعضها الآخر بالموضوع؟
وعلى التقدير الثاني فما هو الملاك في التمايز بالذات وفي التمايز بالموضوع؟
وبالجملة: طرح مسألة التمايز بدون بيان أيّة قاعدة يتمكّن المدوّن منالرجوع إليها حين تدوين العلم يرجع إلى عدم التمايز.
6ـ تمايز العلوم بتمايز أساليب البحث
وفي المقام نظر جديد، وهو أنّ العلوم يمتاز بعضها عن بعض باختلافأساليب البحث وإن كان موضوعها واحداً.
فالبحث عن معرفة الإنسان مثلاً تارةً يكون بطريقة إقامة البرهان العقلي،واُخرى بطريقة المراجعة إلى المنابع الدينيّة من الآيات والروايات، وثالثةًبطريقة التجربة، وملاحظة الآثار الباقية من النسل الأوّلي.
(صفحه72)
فالموضوع في جميع هذه المباحث وإن كان واحداً وهو «الإنسان» لكنّهعلوم ثلاثة متمايزة بتمايز طرق البحث.
وأيضاً: البحث عن معرفة اللّه تعالى قد يكون بحثاً فلسفيّاً مبتنياً علىالبراهين العقليّة، وقد يكون عرفانيّاً مبتنياً على الكشف والشهود.
فهما علمان، وتمايزهما بتمايز اُسلوب البحث، وإن كان موضوعهما واحداً،وهو اللّه تعالى.
فحاصل هذا القول أنّ تمايز العلوم إنّما هو بتمايز طرق البحث وأساليبه.
وفيه أوّلاً: أنّهم إن أرادوا إعطاء ضابطة كلّيّة في جميع العلوم(1) كما أنّه محلّالكلام في المقام فهو يستلزم أن يكون البحث العقلي مثلاً عن معرفة الإنسانالذي يعبّر عنه بعلم النفس، وعن معرفة اللّه تعالى علماً واحداً، لكون البحثفي كليهما بطريقة إقامة البرهان العقلي الفلسفي، فيتّحد الاُسلوب، مع أنّه ليمكن الالتزام بهذا اللازم، لأنّ كونهما علمين متغايرين أمر بديهي.
وإنأرادوا إعطاء الضابطة في خصوص العلوم المشابهة فقط فهو أخصّ منالمدّعى، لما عرفت من أنّ محلّ الكلام جميع العلوم لا خصوص المشابهة منها.
وثانياً: أنّ استنتاج كون التمايز بتمايز أساليب البحث يتوقّف على نفي جميعالاحتمالات المقابلة له، مع أنّ ما ذكره المستدلّ وإن كان ينفي ـ على الفرض كون التمايز بالموضوعات، حيث إنّا نجد أنّ لنا علوماً متعدّدة ذات موضوعواحد، كالبحث عن معرفة اللّه باُسلوب عقلي فلسفي، وباُسلوب آخر عرفاني،
- (1) سواء كانت مشابهة كعلمي معرفة اللّه بالبراهين العقليّة، وبالكشف والشهود، أم غير مشابهة، كعلميالنحو والفلسفة، وعلمي معرفة الإنسان ومعرفة اللّه، فإنّه لا مشابهة بينهما، فإنّ موضوع الأوّل هو الإنسانالممكن الفاني الذي جميع فضائله عرضيّة، وموضوع الثاني واجب الوجود بالذات الباقي الذي كلّكمالاته ذاتيّة. منه مدّ ظلّه.
ج1
فلا يمكن تمايزهما بتمايز الموضوعات، إلاّ أنّه لا ينفي أن يكون التمايز باختلافالمحمولات، أو الأغراض، حيث إنّ للبحث عن معرفة الإنسان بطريقة إقامةالبرهان العقلي غرضاً، وبطريقة الرجوع إلى المنابع الدينيّة غرضاً آخر،وبطريقة التجربة غرضاً ثالثاً.
وبالجملة: إقامة الدليل على نفي كون تمايز العلوم بتمايز الموضوعات لتثبت كونه بتمايز طرق البحث وأساليبه، إلاّ إذا اقتضى نفي الأقوالوالاحتمالات الاُخرى أيضاً، والدليل المذكور لا يقتضي إلاّ نفي كون التمايزبتمايز الموضوعات فقط.
وثالثاً: أنّا نمنع وحدة الموضوع أيضاً فيما يوهم ذلك، فإنّ الشيء الواحديمكن أن يكون ذا أبعاد وحيثيّات متعدّدة ويجعل بلحاظ أحد الأبعادموضوعاً لعلم، وبلحاظ البُعد الآخر موضوعاً لعلم ثانٍ، وبلحاظ البُعد الثالثموضوعاً لعلم ثالث، وهكذا.
فمعرفة اللّه تعالى من طريق الفلسفة غير معرفته من طريق الكشفوالشهود، وغير معرفته من طريق علم الكلام، وإن كان يصدق على الجميعأنّها معرفة اللّه.
فلقائل أن يقول: يمكن أن يكون التمايز هاهنا أيضاً بتمايز الموضوعات؛ لأنّالدليل المذكور لا يقتضي نفيه بعدما عرفت من تغاير موضوعات هذا النوعمن العلوم أيضاً بتغاير الأبعاد والحيثيّات.
الحقّ المختار في المقام
والحقّ في المقام ما ذهب إليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» من أنّ
(صفحه74)
تمايز العلوم إنّما هو بالسنخيّة الذاتيّة المتحقّقة بين مسائل كلّ علم(1)، فإنّا نجدبين «الفاعل مرفوع» و«المفعول منصوب» سنخيّة ذاتيّة، وكذلك بين «الصلاةواجبة» و«الميتة محرّمة»، ولا نجد بين «الفاعل مرفوع» و«الصلاة واجبة»سنخيّة أصلاً.
وقد عرفت أنّ الغرض الداعي إلى التدوين بوجوده الذهني وإن كانمتقدِّماً رتبةً على المسائل، لكونه علّة غائيّة لتدوينها، والمسائل متقدِّمة رتبةًعلى السنخيّة بينها، لكونها(2) موضوعها، إلاّ أنّا لا نهتدي إلى الغرض إلاّ منطريق السنخيّة، لكونها أوضح منه، فحيث كانت هي هادية لنا إلى الغرضويكون المقام من قبيل البرهان الإنّي فلا تصل النوبة إلى كون التمايز بتمايزالأغراض، لأنّ مسألة العلّيّة والمعلوليّة لا توجب ترجيح العلّة على المعلولدائماً، بل الأمر بالعكس إذا كان المعلول أوضح من العلّة وهادياً إليها، لعدمالعلم بها لو لم نعلم به.
- (1) وآية اللّه البروجردي رحمهالله أيضاً صرّح كما عرفت بتحقّق السنخيّة الذاتيّة بين مسائل كلّ علم، وقال: إنّه لدور للغرض أو المدوّن أو أيّ شيء آخر في تحقّق هذه السنخيّة، بل هي مرتبطة بجوهر المسائل وذاتها،لكنّه تخيّل أنّ قوام المسألة إنّما هو بالموضوع والمحمول، ولأجل ذلك ذهب إلى أنّ منشأ السنخيّة هومحمولات المسائل ولا ترتبط بالنسبة، لكونها معنى آلياً موجوداً في جميع القضايا بنحو واحد، وليختلف باختلاف المسائل، بخلاف السنخيّة، فإنّها موجودة مثلاً بين مسائل كلّ من علمي النحو والفقه،ولا توجد بين مسائلهما معاً كما لا يخفى.
لكنّك عرفت أنّ الموضوع والمحمول وإن كانا ممّا لابدّ منه في المسألة إلاّ أنّ ما له دور أصلي فيها إنّما هوالنسبة بين الموضوع والمحمول، فإنّها روح المسألة، ألا ترى أنّ المدوّن لو كتب كلّ واحد من «الفاعل»و«مرفوع» في علم النحو من دون أن يوجد بينهما الارتباط لم تتحقّق مسألة نحويّة؟ بخلاف ما إذا أوجدالارتباط بينهما وقال: «الفاعل مرفوع».
فروح المسألة هي النسبة بين الموضوع والمحمول، والسنخيّة الذاتيّة بين مسائل كلّ علم أيضاً مربوطةبالنسب لا بالموضوعات ولا بالمحمولات. منه مدّ ظلّه.
- (2) أي لكون المسائل موضوع السنخيّة. م ح ـ ى.