توضيح ذلك: أنّك عرفت أنّ للغرض وجوداً ذهنيّاً متقدِّماً على التدوين،ووجوداً خارجيّاً متأخّراً عنه، وما هو داعٍ إلى التدوين، وبه يمتاز كلّ علم عنسائر العلوم إنّما هو الغرض بوجوده الذهني.
ولا فرق في ذلك بين العلوم التي يترتّب عليها غرض عملي، كعلم النحوالذي فائدته «صون اللسان عن الخطأ في المقال» والعلوم التي لا تترتّب عليهإلاّ «معرفة الأشياء والعلم بحقائقها كما هي» كالفلسفة.
لأنّ «صون اللسان عن الخطأ في المقال» كما أنّه بوجوده الذهني يكونداعياً إلى تدوين علم النحو، كذلك «العلم بحقائق الأشياء كما هي» أيضبوجوده الذهني يكون داعياً إلى تدوين علم الفلسفة.
فلو كان الغرض الداعي إلى التدوين ملاك تمايز النحو عن سائر العلوم،فكذلك الأمر في الفلسفة، ولا ملزم للفرق بينهما في ذلك أصلاً.
2ـ أنّه«مدّ ظلّه» قال في القسم الأوّل من العلوم، أعني ما يترتّب عليه غرضخارجي: لابدّ من أن يكون التمايز في هذا القسم بالغرض، إذ لو لم يكن ذلكملاك تمايز هذه العلوم بعضها عن بعض في مرحلة التدوين، بل كان هوالموضوع ـ كما عليه المشهور ـ لكان اللازم على المدوّن أن يدوّن كلّ باب ـ بلكلّ مسألة ـ علماً مستقلاًّ، لوجود الملاك، كما ذكره صاحب الكفاية قدسسره .
وفيه: أنّه تخيّل ـ كالمحقّق الخراساني رحمهالله ـ أنّ المشهور جعلوا موضوعاتالمسائل ملاكاً لتمايز العلوم، وقد عرفت(1) أنّه تخيّل باطل، فإنّ ظاهر كلامهمأنّ موضوعات العلوم تكون ملاكاً للتمايز، لا موضوعات المسائل، وحيث إنّموضوع كلّ علم أمر واحد فلا يرد عليهم هذا الإشكال.
3ـ أنّه«مدّ ظلّه» قال في القسم الثاني من العلوم: وأمّا إذا لم يكن للعلم غرضخارجي يترتّب عليه سوى العرفان والإحاطة، كعلم الفلسفة الاُولى،فامتيازه عن غيره إمّا بالذات أو بالموضوع أو بالمحمول.
وفيه أوّلاً: أنّه إن أراد من التمايز بالذات التمايز بالسنخيّة كما قالالإمام«مدّ ظلّه» فلماذا لم يذكره في مقام التعليم والتعلّم، مع أنّ السنخيّة أمر واضحفي كلا المقامين؟
وإن أراد به التمايز بالجنس والفصل فهو مغاير لما ذكره في مقام التعليموالتعلّم من أنّ حقيقة كلّ علم حقيقة اعتباريّة، وليست وحدتها وحدةبالحقيقة والذات، ليكون تمييزه عن غيره بتمام الذات أو بالفصل.
ج1
والحاصل: أنّه إن أراد من التمايز بالذات التمايز بالسنخيّة الذاتيّة بينالمسائل فلابدّ من ذكره في مقام التعليم والتعلّم أيضاً، وإن أراد به التمايزبالجنس والفصل فلا مجال له في العلوم، لأنّ تركّبها تركّب اعتباري، وليس لهجنس وفصل.
وثانياً: أنّه مثّل لهذا القسم من العلوم بمثالين للتمايز بالذات أو بالموضوع،وبمثال ثالث للتمايز بالمحمول من دون أن يذكر ضابطة للمسألة.
فيتوجّه إليه سؤالان:
1ـ ما ضابطة كون التمايز بالذات أو بالموضوع، وما ضابطة كونه بالمحمول؟
2ـ ما معنى كون التمايز بالذات أو بالموضوع في القسم الأوّل؟ هل اُريد أنّفي هذا القسم جهتين للتمايز: الذات، والموضوع، وبكلّ منهما يمتاز كلّ علم منعلوم هذا القسم عن سائر العلوم التي لا يترتّب عليها غرض خارجي، أواُريد أنّ التمايز في بعض أفراد هذا القسم بالذات وفي بعضها الآخر بالموضوع؟
وعلى التقدير الثاني فما هو الملاك في التمايز بالذات وفي التمايز بالموضوع؟
وبالجملة: طرح مسألة التمايز بدون بيان أيّة قاعدة يتمكّن المدوّن منالرجوع إليها حين تدوين العلم يرجع إلى عدم التمايز.
6ـ تمايز العلوم بتمايز أساليب البحث
وفي المقام نظر جديد، وهو أنّ العلوم يمتاز بعضها عن بعض باختلافأساليب البحث وإن كان موضوعها واحداً.
فالبحث عن معرفة الإنسان مثلاً تارةً يكون بطريقة إقامة البرهان العقلي،واُخرى بطريقة المراجعة إلى المنابع الدينيّة من الآيات والروايات، وثالثةًبطريقة التجربة، وملاحظة الآثار الباقية من النسل الأوّلي.