ج1
سلّمنا كونها هي الغاية، لكنّها غاية للوضع، فهو يضيَّق بها لا الموضوع له،ومعنى تضييق الوضع بها أنّ الواضع وضع اللفظ بإزاء نفس المعنى لكن فيظرف كونه مراداً للاّفظ وحينه، فالإرادة قيد للوضع لا للموضوع له.
البحث حول قول العلمين: «الدلالة تابعة للإرادة»
بقي هنا شيء: وهو أنّ العلمين الشيخ الرئيس والمحقّق الطوسي رحمهماالله ذهبا إلىأنّ الدلالة تابعة للإرادة.
فتوهّم بعضهم أنّ مرادهما كون الإرادة داخلة في الموضوع له، لأنّ معنىكلامهما أنّ الإرادة إذا كانت موجودة كان المعنى تامّاً فيدلّ اللفظ عليه، وإذا لمتكن كان ناقصاً فلا يدلّ عليه، فكلامهما يؤيّد قول من ذهب إلى أنّ الألفاظموضوعة بإزاء معانيها بما هي مرادة للافظها.
وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمهالله بأنّ لنا دلالتين: تصوّريّة وتصديقيّة، فإنّهإذا قيل: «زيد» مثلاً ينتقل الذهن إلى المعنى، سواء أراده المتكلّم أم لا، وهذهو الدلالة التصوّريّة، وله دلالة اُخرى فيما إذا أحرز أنّ المتكلّم أيضاً أرادالمعنى، فحينئذٍ يدلّ عليه أيضاً، وهذه هي الدلالة التصديقيّة، لتصديق السامعكون المعنى مراداً للمتكلّم.
والعلمان أرادا تبعيّة الدلالة التصديقيّة للإرادة، ونحن أيضاً نقول به، لكنّالموضوع له هو المدلول بمجرّد الدلالة التصوّريّة، وهي لا تتبع الإرادة عندهمأيضاً، فكلامهما لا يؤيّد قول الخصم(1).
هذا حاصل كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في توجيه كلام العلمين.
(صفحه260)
وأورد عليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بأنّ تبعيّة الدلالةالتصديقيّة للإرادة أمر بيّن نظير «النار حارّة» لأنّ معناها أنّ «دلالة اللفظ علىكون المعنى مراداً للمتكلّم تابع لأن يكون مراداً له» وهذا لا يشكّ فيه أحدحتّى يحتاج إلى البيان، سيّما من قبل هذين العلمين الذين هما بصدد بيانالغوامض والمعضلات وتوضيحها.
فمرادهما تبعيّة الدلالة التصوّريّة لها، وأنّ المعنى إذا لم يكن مراداً للاّفظ لميكن دلالة أصلاً، ولم ينتقل ذهن السامع إلى المعنى.
إن قلت: فعلى هذا يكون كلامهما تأييداً للخصم، لما هو الحقّ من كونالموضوع له هو ما دلّ عليه اللفظ بالدلالة التصوّريّة.
قلت: لا، لأنّ غاية ما يقتضيه كلامهما ـ مع قطع النظر عن صحّته وسقمه أنّ الإرادة تضيّق الوضع لا الموضوع له كما تقدّم، وبعبارة اُخرى: القضيّةحينيّة ممكنة، لا مشروطة عامّة(1).
فهذا نظير ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله في الفرق بين معاني الأسماءوالحروف، من أنّ قصد المعنى بما هو هو وفي نفسه أو بما هو في غيره منظروف الاستعمال لا من شؤون الموضوع له أو المستعمل فيه(2).
هذا حاصل كلام الإمام«مدّ ظلّه» مع توضيح منّا.
كلام السيّد الخوئي«مدّ ظلّه» في المقام
لكن ذهب بعض الأعلام إلى كون الدلالة التصديقيّة هي الدلالة الوضعيّة،خلافاً لما اختاره المحقّق الخراساني والإمام، وإلى أنّ كلام العلمين أيضاً مربوط
- (1) فاللفظ وضع للمعنى ليكون دالاًّ عليه حين كونه مراداً لا بشرط كونه مراداً. م ح ـ ى.
ج1
بهذه الدلالة لا الدلالة التصوّريّة، لكن مرادهما أنّ الإرادة دخيلة في الوضع لالموضوع له.
فقال ما ملخّصه: قد وقع الكلام بين الأعلام في أنّ الدلالة الوضعيّة هل هيالدلالة التصوّريّة أو أنّها الدلالة التصديقيّة؟ فالمعروف والمشهور بينهم هوالأوّل، بتقريب أنّ الانتقال إلى المعنى عند تصوّر اللفظ لابدّ أن يستند إلىسبب، وذلك السبب إمّا الوضع أو القرينة، وحيث إنّ الثاني منتفٍ لفرضخطور المعنى في الذهن بمجرّد سماع اللفظ فيتعيّن الأوّل، وذهب جماعة منالمحقّقين إلى الثاني أي «إلى انحصار الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقيّة».
التحقيق حسب ما يقتضيه النظر الدقيق هو القول الثاني بناءً على مسلكناه في باب الوضع من أنّه عبارة عن التعهّد والالتزام، ضرورة أنّه لا معنىللالتزام بكون اللفظ دالاًّ على معناه ولو صدر عن لافظ بلا شعور واختيار،بل ولو صدر عن اصطكاك حجر بآخر وهكذا، فإنّ هذا غير اختياري، فليعقل أن يكون طرفاً للتعهّد والالتزام، وعليه فلا مناص من الالتزامبتخصيص العلقة الوضعيّة بصورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وإرادته، سواءكانت الإرادة تفهيميّة(1) محضة أم جدّيّة أيضاً، فإنّه أمر اختياري، فيكونمتعلّقاً للالتزام والتعهّد.
وأمّا الدلالة التصوّريّة وهي الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ فهي غيرمستندة إلى الوضع، بل هي من جهة الاُنس الحاصل من كثرة الاستعمال أونحو ذلك، فالانتقال عادي لا وضعي.
ولا يخفى أنّ مراد العلمين رحمهماالله ممّا حكي عنهما من أنّ الدلالة تتبع الإرادة هو
- (1) أي: استعماليّة. منه مدّ ظلّه.
(صفحه262)
ما ذكرناه من أنّ العلقة الوضعيّة مختصّة بصورة إرادة تفهيم المعنى، وليسمرادهما من ذلك أخذ الإرادة التفهيميّة في المعنى الموضوع له لكي يرد عليهما أورد(1).
انتهي كلامه ملخّصاً.
نقد ما أفاده المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» في المقام
وفيه أوّلاً: أنّه مبنيّ على ما اختاره من كون حقيقة الوضع هي التعهّدوالالتزام، ونحن لم نسلّم هذا المبنى في ذلك البحث(2).
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 117.
- (2) يمكن أن يقال: إنّ المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» لم يحصر البحث على مبناه، فإنّه بعد توجيه ما اختاره علىطبق مبناه قال:
بل إنّ الأمر كذلك حتّى على ما سلكه القوم في مسألة الوضع من أنّه أمر اعتباري، فإنّ الأمر الاعتبارييتبع الغرض الداعي إليه في السعة والضيق، فالزائد على ذلك لغو محض، ولمّا كان الغرض الباعثللواضع على الوضع قصد تفهيم المعنى من اللفظ وجعله آلةً لإحضار معناه في الذهن عند إرادة تفهيمهفلا موجب لجعل العلقة الوضعيّة واعتبارها على الإطلاق، حتّى في اللفظ الصادر عن لافظ من غيرشاعر، كالنائم والمجنون ونحوهما، فإنّ اعتباره في أمثال هذه الموارد من اللغو الظاهر.
وإن شئت فقل: حيث إنّ الغرض الباعث على الوضع هو إبراز المقاصد والأغراض خارجاً فلا محالة ليزيد سعة الوضع عن سعة ذلك الغرض، فإنّه أمر جعلي واختياره بيد الجاعل، فله تقييده بما شاء منالقيود إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وبما أنّ الغرض في المقام قصد التفهيم فلا محالة تختصّ العلقةالوضعيّة بصورة إرادة التفهيم.
فالنتيجة هي انحصار الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقيّة على جميع المسالك والآراء في تفسير حقيقةالوضع من دون فرق في المسألة بين رأينا وسائر الآراء.
لكنّ الاُستاذ«مدّ ظلّه» لم يتعرّض لهذه الفقرة من كلامه، ولعلّه لم يعتدّ بها، لأجل تضعيفها من قبلالمحقّق الخوئي نفسه، فإنّه عقيب التصريح بعدم الفرق في المسألة بين رأيه وسائر الآراء قال:
نعم، الفرق بينهما في نقطة واحدة، وهي أنّ ذلك الانحصار حتميّ على القول بالتعهّد دون غيره منالأقوال. م ح ـ ى.
ج1
وثانياً: لم نسلّم كون الدلالة التصوّريّة مستندة إلى الاُنس الحاصل من كثرةالاستعمال، بل الوجدان قاضٍ بأنّها مستندة إلى الوضع كما هو المشهور، فإنّكإذا وضعت لفظ زيد لابنك مثلاً وأعلمت ذلك فكلّما قيل: «زيد» ينتقل ذهنالسامع إليه ولو كان القائل نائماً غير مريد للمعنى حتّى فيما إذا لم يتحقّق كثرةالاستعمال فيه بعد، فالدلالة التصوّريّة مستندة إلى الوضع لا إلى كثرةالاستعمال.
فتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ الإرادة ليست جزءً ولا شرطاً للموضوعله أوّلاً، وأنّ الدلالة التصوّريّة من الدلالات الوضعيّة ثانياً، وأنّ كلام العلمينمربوط بها لا بالدلالة التصديقيّة ثالثاً، فإن قلنا بصحّة كلامهما ينحصر الوضعبما إذا كان المعنى مراداً بنحو القضيّة الحينيّة ولا وضع فيما إذا انتقل ذهن السامعإلى المعنى من اصطكاك حجر بحجر آخر أو من تلفّظ لافظ بلا شعورواختيار أو نحوهما، وإلاّ فلا ينحصر به، بل يعمّ جميع موارد انتقال الذهن إلىالمعنى.