(صفحه236)
ثمّ أيّده بأنّه لولاه لما صحّ التعجّب في قول الشاعر:
قامت تظلّلني عن الشمس
|
نفس أعزّ عليَّ من نفسي
|
قامت تظلّلني ومن عجب
|
شمس تظلّلني عن الشمس
|
لعدم التعجّب في كون امرأة ذات ظلّ لو لم تكن شمساً ادّعاءاً(1).
فالسكّاكي خالف المشهور في الاستعارة ووافقهم في سائر المجازات.
توجيه كلام السكّاكي رحمهالله
ولكن في كلامه مع حفظ ظاهره إشكال، وهو أنّ اسم الجنس وضعللعموم، فاستعماله في مصداقه الحقيقي استعمال في غير ما وضع له فضلاً عنمصداقه الادّعائي، ولذا يكون الحمل في مثل «زيد إنسان» شائعاً صناعيّاً،ويكون المعنى: «زيد مصداق من مصاديق طبيعة الإنسان» مع أنّ زيداً لو كانما وضع له لفظ الإنسان لكانا متّحدين بحسب الماهيّة، فكان الحمل أوّليّذاتيّاً.
فإذا استعمل اسم الجنس في مصداقه الادّعائي بعلاقة المشابهة، مثل «أسدعليّ وفي الحروب نعامة» لم يكن مستعملاً في مفهومه العامّ، فيكون استعمالاً فيغير ما وضع له، فما ذهب إليه من أنّ لفظ «أسد» مثلاً مع حفظ معناه الحقيقياستعمل في مثل زيد لا يتمّ بظاهره، لما عرفت من أنّ استعماله في أفرادهالواقعيّة ليس حقيقةً لغويّة، فضلاً عن مصاديقه الادّعائيّة.
فلابدّ من توجيه كلامه بأنّ الاستعارة عبارة عن توسعة الموضوع له بحيثيعمّ المصداق الادّعائي، فالمصداق الادّعائي يدخل تحت الموضوع له، لا أنّ
- (1) مفتاح العلوم: 371، ومختصر المعاني للتّفتازاني: 158.
ج1
اللفظ مع حفظ مفهومه العامّ يستعمل فيه، فإنّه لا يصحّ كما مرّ.
وأيضاً لابدّ في كلامه من توضيح وتوجيه آخر، وهو أنّ الاستعارة فيالأعلام الشخصيّة مثل إطلاق لفظ «حاتم» وإرادة زيد بعلاقة المشابهة فيالجود لابدّ من أن تكون بادّعاء العينيّة، لا بادّعاء كونه فرداً منه، لعدم تحقّقالعموم في الأعلام حتّى تكون ذات أفراد، فإذا قلنا: «زيد حاتم» ندّعي أنّهعين حاتم ومتّحد معه بلحاظ كثرة جوده.
فالاستعارة حقيقة لغويّة، لكن بادّعاء فرديّة المستعمل فيه للموضوع له فيأسماء الأجناس، وبادّعاء عينيّته له في الأعلام الشخصيّة.
بيان المختار في حقيقة المجاز
وما ذهب إليه السكّاكي وإن كان حقّاً، إلاّ أنّه لا يختصّ بالاستعارة، فإنّعامّة المجازات كذلك كما ذهب إليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» تبعلاُستاذه العلاّمة المحقّق الشيخ محمّد رضا الاصفهاني المسجد شاهي رحمهالله صاحبكتاب «وقاية الأذهان».
وما أفاده هذا المحقّق الكبير نظير ما ذهب إليه صاحب الكفاية في مبحثتخصيص العامّ، من تحقّق إرادتين: استعماليّة وجدّيّة، وابتنى عليه أنّالتخصيص لا يستلزم التجوّز، لأنّ لفظ العامّ استعمل في العموم، لكنّ المرادالجدّي هو غير مورد المخصّص.
وحاصل ما أفاده المحقّق المسجدشاهي أيضاً في المقام: أنّ ما هو المراداستعمالاً غير ما هو المراد جدّاً، فإذا قيل: «رأيت أسداً يرمي» استعمل لفظالأسد في معناه الحقيقي، وهو الحيوان المفترس، لكنّ المراد الجدّي هو المعنىالمجازي أعني الرجل الشجاع بادّعاء كونه فرداً من أفراد الأسد، وإذا اُطلق
(صفحه238)
لفظ «العين» على الربيئة(1) بعلاقة الجزء والكلّ استعملت في معناها وهوالجارحة المخصوصة، لكنّ الإرادة الجدّيّة تعلّقت بالربيئة بادّعاء كونه عينباصرة بتمام وجوده، لكمال مراقبته، وهكذا سائر أنواع المجاز.
واستدلّ عليه بأنّ الاستعمالات المجازيّة ليست إلاّ لما فيها من الحسنوالظرافة، ولا حسن في تبادل الألفاظ والتلاعب بها ما لم يكن بلحاظ المعنىوتوسعة المفاهيم إلى ما لا يسعه وضع ألفاظها ابتداءً. ألا ترى أنّ قول النسوةفي قصّة يوسف: «حَاشَ للّهِِ مَا هَذَا بَشَرا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ»(2) لا ظرافةفيه لو أردن «إن هذا إلاّ يوسف»، بل لا يلائمه قولهنّ: «حاش للّه» إذ لا تعجّبفي كونه يوسف، وإنّما التعجّب في كونه ملكاً كريماً.
وهكذا قول اخوة يوسف لأبيهم ـ بعد رجوعهم إليه حين اتّهموا بسرقةصواع الملك ثمّ استخرجت من وعاء أخيه ـ : «يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَشَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ* وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَوَالْعِيرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ»(3) إذ لا حسن فيه لو اُريد من القريةأهلها بنحو المجاز في الحذف، أو بعلاقة تسمية الشيء باسم محلّه، فإنّ العلاقةمصحّحة للاستعمال لا موجبة للحسن والظرافة، وإنّما الحسن والظرافة فيما إذاُريد أنّ هذه القصّة بلغت من الوضوح مرتبةً يشهد بها القرية بما فيها منالأحجار والأشجار وغيرهما من الجمادات والنباتات فضلاً عن الآدميّين.
وهكذا قول الفرزدق الشاعر في شأن عليّ بن الحسين عليهماالسلام حين أنكر هشام
- (1) وهو الشخص الرقيب. م ح ـ ى.
ج1
بن عبد الملك معرفته:
«هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
|
والبيت يعرفه والحلّ والحرم»
|
إذ لا ظرافة فيه لو اُريد أنّه يعرفه أهل البطحاء، وصاحب البيت، وأهلالحلّ والحرم، وإنّما الظرافة واللطافة فيما إذا اُريد أنّه عليهالسلام بمثابة من الشهرةوالمقامات المعنوية حتّى يعرفه هذه الجمادات فضلاً عن الإنسان.
بل لا مجال لقول المشهور في المجاز المركّب(1) أصلاً، لأنّه مركّب من كلماتاستعمل كلّ منها في معناها الحقيقي واُريد من المجموع خلاف ظاهره، كقولنللمتحيّر: «أراك تقدّم رجلاً وتؤخّر اُخرى» مع أنّه ليس للمركّب وضع علىحدة ليستعمل في غير ما وضع له، فيعلم من ذلك أنّا لم نتفوّه بهذا الكلام إلبعد ادّعاء كون هذا الرجل المتردّد شخصاً متمثّلاً كذلك، وأنّ حاله وأمرهيتجلّى في هذا المثال كأنّه هو.
هذه قضاوة الوجدان وشهادة الذوق السليم، بل ما ذكر في المركّبات منأقوى الشواهد على المدّعى، وبه يحفظ لطائف الكلام وجمال الأقوال فيالخطب والأشعار(2).
هذا حاصل ما أفاده الشيخ محمّد رضا الاصفهاني المسجدشاهي رحمهالله .
والفرق بينه وبين ما اختاره السكّاكي في ثلاثة اُمور:
- (1) المجاز على ثلاثة أقسام: المجاز المفرد، وعرّفه المشهور بـ «كلمة مستعملة في غير ما وضعت له» نحو«رأيت أسداً يرمي»، والمجاز في الإسناد، وهو ما استعمل فيه كلّ كلمة في معناها، لكنّ الإسناد مجاز، نحو«أنبت الربيع البقل» إذ الإنبات فعل اللّه تعالى حقيقةً، والمجاز المركّب، وهو ما استعمل فيه كلّ كلمة فيمعناها، لكن اُريد من المجموع غير ظاهره، كقولنا للمتحيّر: «أراك تقدّم رجلاً وتؤخّر اُخرى».منه مدّ ظلّه.
- (2) وقاية الاذهان: 103، وتهذيب الاُصول 1: 61.
(صفحه240)
أ ـ أنّ كلامه لا يختصّ بالاستعارة، بل يشمل جميع المجازات، بخلاف كلامالسكّاكي.
ب ـ أنّ كلامه لا يحتاج إلى ما ذكرنا من التوجيهين لكلام السكّاكي، إذاللفظ استعمل في الموضوع له على ما ذهب إليه المحقّق المسجدشاهي، سواءكان من أسماء الأجناس أو الأعلام الشخصيّة، لكنّ المراد الجدّي على خلافه،فإذا قيل: «أسد عليّ وفي الحروب نعامة» تعلّق الإرادة الاستعماليّة بالحيوانالمفترس بمفهومه الكلّي، لكنّ الإرادة الجدّيّة تعلّقت بالرجل المنظور بادّعاءكونه فرداً منه، وإذا قيل: «زيد حاتم» استعمل اللفظ في ما وضع له وهو«حاتم الطائي» لكنّ الإرادة الجدّيّة على خلافه بادّعاء كونه عينه.
ج ـ أنّ ادّعاء الفرديّة والعينيّة يكون على مذهب السكّاكي قبل الاستعمالوعلى مذهب المحقّق الاصفهاني بعده كما هو ظاهر.
ويؤيّد مذهبه أمران:
1ـ أنّه يناسب تسمية الحقيقة والمجاز بهما، فإنّ الحقيقة من الحقّ، وهو لغةًعبارة عن الأمر الثابت، والمجاز من الجواز، وهو العبور، فكأنّ المجاز يؤخذمن معبر المعنى الحقيقي، وهذه المناسبة لم تتحقّق في قول المشهور.
2ـ أنّ المنطقيّين قسّموا الدلالة اللفظيّة إلى المطابقة والتضمّن والالتزام،ودلالة اللفظ على المعنى المجازي ليست منها على القول المشهور.
أمّا عدم كونها مطابقة فواضح، وأمّا عدم كونها تضمّناً فلأنّ العلاقة وإنكانت في بعض المجازات علاقة الكلّ والجزء، وهو من باب تسمية الشيءباسم كلّه، إلاّ أنّه لا يكون تضمّناً، لأنّ التضمّن هو الدلالة على جزء ما وضعله تبعاً لدلالته على تمامه لا استعماله في الجزء مستقلاًّ.