(صفحه180)
المدرسة»، ولا فرق في ذلك بين ما إذا قيل: «زيد في المدرسة» أو لم يقل،ويؤيّده أنّا نختبر صدق قول القائل: «زيد في المدرسة» وكذبه بمطابقته للخارجوعدم مطابقته، ولو لم يكن للمعنى الحرفي، أعني «كون زيد في المدرسة»واقعيّة سوى الاستعمال لم يكن لاحتمال صدق تلك القضيّة وكذبها معنى.
نعم، واقعيّة كلّ شيء بحسبه، فإنّ الجوهر موجود في نفسه، وبعضالأعراض موجود في موضوع كالبياض، وبعضها يحتاج في وجوده إلىطرفين، كالعلم والظرفيّة، ولكن لكلّ منها واقعيّة وحقيقة.
والشاهد عليه أنّك لو قلت: «المدرسة ظرف زيد» لكان لنا مضافاً إلىحقيقة «زيد» و«المدرسة» واقعيّة ثالثة يدلّ عليها كلمة «ظرف» بلا إشكال،والمحقّق النائيني رحمهالله أيضاً يعترف به، لأنّ كلمة «الظرف» اسم، وهو رحمهالله قائلبكون معاني الأسماء إخطاريّة، فكذلك إذا قلنا: «زيد في المدرسة»، ضرورة أنّالتغيير في التعبير لا يعقل أن يوجب التغيير في الحقائق الخارجيّة.
وأمّا تشبيهه الحروف بصيغ العقود والإيقاعات فغاية ما يقتضيه تقسيمالحروف إلى قسمين: إخطاري، كقولنا: «سرت من البصرة إلى الكوفة»وإيجادي، كقول المولى: «سر من البصرة إلى الكوفة»، كما أنّ صيغ العقودوالإيقاعات بلفظ واحد على قسمين: قسم في مقام الإخبار، كقولك: «بعتداري»، مخبراً عن البيع الواقع أمسِ مثلاً، وقسم في مقام الإنشاء، كقولك عندإجراء صيغة البيع: «بعتك داري»، فإنّ الأوّل مبيّن للواقعيّة المتحقّقة قبلاً،والثاني موجد للتمليك الذي لم يكن له واقعيّة بعد.
فلو سلّمنا كون معاني الحروف إيجاديّة فلا مجال للقول به إلاّ في بعضها.
وثانياً: ما معنى إيجاد الربط بالحروف؟
ج1
هل المراد به الربط بين المعاني؟ فهو واضح البطلان، لأنّ زيداً إذا دخل فيالمدرسة، تحقّق الربط بينهما قطعاً، وإن لم يقل أحد: «زيد في المدرسة»، وإن لميدخل فيها، لم يتحقّق الربط بينهما وإن قيل ذلك، ولا يعقل أن يكون هذالكلام، أعني «زيد في المدرسة» موجباً لوقوعه فيها وتحقّق الربط بينهما.
وإن اُريد به إيجاد الربط بين الألفاظ، فهو يستلزم أن لا يكون للحروفمعنى، لا أنّ معناها مباين لمعنى الأسماء.
5ـ رأي المحقّق الاصفهاني رحمهالله في المقام
ذهب المحقّق الاصفهاني رحمهالله إلى أنّ المعاني الحرفيّة عبارة عن النسبوالروابط الخارجيّة التي ليس لها استقلال بالذات، بل هي عين الربط، لا ذاتله الربط.
توضيح ذلك: أنّ الوجود ـ كما قال الفلاسفة ـ على أربعة أنحاء:
1ـ وجود في نفسه(1) لنفسه(2) بنفسه(3)، وهو واجب الوجود، 2ـ وجود فينفسه لنفسه بغيره، وهو الجوهر، 3ـ وجود في نفسه لغيره بغيره، وهو العرض،4ـ وجود في غيره لغيره بغيره، وهو المعنى الحرفي المعبّر عنه بالرابط.
لا يقال: إنّا لا نجد للمعنى الحرفي سوى وجود الطرفين عيناً ولا أثراً، فإنّإذا قلنا: «زيد في الدار» مثلاً لا نجد سوى «زيد» و«الدار» شيئاً آخر، فأين
- (1) أي وجود مستقلّ في ذاته لا يحتاج في تصوّره إلى تصوّر غيره، في مقابل وجود الرابط الذي هو وجودفي غيره، ويحتاج في لحاظه إلى لحاظ طرفيه. منه مدّ ظلّه.
- (2) هذا في مقابل العرض الذي هو مستقلّ في ذاته، لا يحتاج في تصوّره إلى تصوّر غيره، لكنّه يحتاج فيوجوده الخارجي إلى موضوع ومحلّ. منه مدّ ظلّه.
- (3) هذا في مقابل جميع الممكنات، فإنّها بتمام أقسامها تحتاج إلى العلّة، فلا تكون موجودةً بأنفسها.منه مدّ ظلّه.
(صفحه182)
وجود المعنى الحرفي؟
وبتعبير آخر: الموجودات الممكنة على قسمين: جوهر وعرض، ولا ثالثلهما.
فإنّه يقال: راجع نفسك، إذا أيقنت بوجود الجدار، وبوجود لون كالبياضقرب الجدار، ثمّ شككت في أنّ زيداً هل دلكه به أم لا، شككت لا محالة في أنّالجدار صار أبيض أم لا، فهاهنا معنى ثالث مشكوك الحصول سوى الجداروالبياض، وهو الربط بينهما، وقد يصير هذا المعنى معلوماً، كما إذا رأيت الجدارصار أبيض.
وبعبارة اُخرى: لنا هاهنا ثلاث قضايا: الاُولى: وجود الجدار، الثانية:وجود البياض، وهما متيقّنتان، الثالثة: صيرورة الجدار أبيض، وهيمشكوكة، وحيث إنّه لابدّ من تغاير القضيّة المتيقّنة مع المشكوكة ويستحيلاتّحادهما فالواقعيّة المحكيّة بالقضيّة الأخيرة غير الواقعيّة المحكيّة بالاُولى أوالثانية.
وأمّا كون وجوده وجوداً لا في نفسه، فلأنّ النسبة والربط لو وجدت فيالخارج بوجود نفسي لزمه أن لا يكون مفاد القضيّة الحمليّة ثبوت شيءلشيء، بل ثبوت أشياء ثلاثة، فنحتاج حينئذٍ إلى الرابطة بين هذه الموجوداتالثلاثة، فإذا كانت موجودةً في نفسها احتجنا إلى رابطة اُخرى، وهكذا إلى ملا يتناهى.
ويترتّب على ذلك: أنّ الأسماء موضوعة للماهيّات القابلة للوجود في نفسهبجواهرها وأعراضها على نحوين، كما توجد في الذهن كذلك، وهي التي تقع فيجواب ما هو إذا سئل عن حقيقتها، والحروف موضوعة للنسب والروابط
ج1
الموجودة لا في أنفسها المتقوّمة بالغير بحقيقة ذاتها لا بوجوداتها فقط(1)، ولتقع في جواب ما هو، فإنّ الواقع في جواب ما هو ما كان له ماهيّة تامّة،ووجود الرابط سنخ وجود لا ماهيّة له، ولذا لا يدخل تحت شيء منالمقولات، بل كان وجوده أضعف جميع مراتب الوجودات.
ثمّ إنّ الحروف لم توضع لمفهوم النسبة والربط، فإنّه من المفاهيم الاسميّةالاستقلاليّة في عالم مفهوميّتها، وإنّما الموضوع له الحروف واقع النسبة والربط،أي ما هو بالحمل الشائع نسبة وربط، الذي نسبة ذلك المفهوم إليه نسبةالعنوان إلى المعنون، لا الطبيعي وفرده، فإنّه متّحد معه ذهناً وخارجاً، دونالعنوان، فإنّه لا يتعدّى عن مرحلة الذهن إلى الخارج، ومغاير للمعنون ذاتووجوداً، نظير مفهوم «العدم» و«شريك الباري» و«اجتماع النقيضين» فإنّنسبة هذه المفاهيم إلى واقعها نسبة العنوان إلى المعنون، لا الطبيعي وأفراده،لأنّ تلك المفاهيم لا تتعدّى عن مرحلة الذهن إلى الخارج، ولأجل ذلك ليصحّ حملها على واقعها بالحمل الشائع الصناعي، فمفهوم النسبة والربط نسبةوربط بالحمل الأوّلي الذاتي، ولا يكون كذلك بالحمل الشائع الصناعي، فإنّما كان بهذا الحمل نسبةً وربطاً معنون هذا العنوان وواقعه.
ومن ثمّة كان المتبادر من إطلاق لفظ الربط والنسبة واقعه لا مفهومه، فإنّإرادته تحتاج إلى عناية زائدة، كما هو الحال في قولهم: «شريك الباري ممتنع»و«اجتماع النقيضين مستحيل» و«المعدوم المطلق لا يخبر عنه»، فإنّ المحكوم بهبهذه الأحكام معنونات هذه الاُمور لا مفاهيمها، فإنّها غير محكومة بها، كيف
- (1) بخلاف الأعراض، فإنّها تحتاج إلى الغير في وجودها الخارجي فقط، وأمّا بالنسبة إلى حقيقة الذات فهيمستقلّة، ولذا لا تحتاج في تصوّرها إلى غيرها. م ح ـ ى.
(صفحه184)
وإنّها موجودة غير معدومة ولا ممتنعة.
وتحصّل ممّا ذكرناه أنّ الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط مطلقاً،سواء كانت بمعنى «ثبوت شيء لشيء» كما في الوجود الرابط المختصّ بمفادالهليّات المركّبة الإيجابيّة، أو «ثبوت الشيء» كما في الوجود الرابط المختصّبمفاد الهليّات البسيطة، أو كانت من النسب الخاصّة المقوّمة للأعراض النسبيّة،ككون الشيء في الزمان أو المكان أو نحو ذلك.
وأمّا الموضوع بإزاء مفاهيمها فهي ألفاظ «النسبة» و«الربط» ونحوهما منالأسماء المحكيّة عنها بتلك الألفاظ، لا بالحروف والأدوات(1).
هذا ملخّص ما أفاده الشيخ محمّد حسين الاصفهاني قدسسره .
نقد نظريّة المحقّق الاصفهاني من قبل المحقّق الخوئي وجوابه
وقد ناقشه بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات بوجوه:
منها: أنّه لا وجود للنسبة والربط في الخارج في مقابل وجود الجوهروالعرض، وأمّا البرهان الذي ذكره لإثباته فيرد عليه أنّ صفتي اليقين والشكوإن كانتا صفتين متضادّتين، فلا يكاد يمكن أن تتعلّقا بشيء في آنٍ واحد منجهة واحدة، إلاّ أنّ تحقّقهما في الذهن لا يكشف عن تعدّد متعلّقهما في الخارج،فإنّ الطبيعي عين فرده ومتّحد معه خارجاً، ومع ذلك يمكن أن يكون أحدهممتعلّقاً لصفة اليقين والآخر متعلّقاً لصفة الشكّ، كما إذا علم إجمالاً بوجودإنسان في الدار ولكن شكّ في أنّه زيد أو عمرو، فلا يكشف تضادّهما عن تعدّدمتعلّقيهما بحسب الوجود الخارجي، فإنّهما موجودان بوجود واحد حقيقةً،