(صفحه152)
وأمّا الحلّ: فهو أنّه من الواضحات أنّ التشخّصات الفرديّة من العلموالجهل والسواد والبياض وغيرها ليست داخلة في مفهوم «ما ينطبق عليهالإنسان» فكيف يكون حاكياً عنها؟!
وكذلك مفهوم الشخص والفرد والمصداق.
وأمّا مسألة القضايا الحقيقيّة والخارجيّة فإنّ المنطقيّين وإن قالوا: إنّ الحكمفيها تعلّق بالأفراد، لكن لابدّ من أن يكون مرادهم من الأفراد، الوجوداتالمتكثّرة، لا التشخّصات الفرديّة، فإنّ عدم كون خصوصيّات الأفراد منالزمان والمكان والعلم والجهل وأمثالها داخلةً في مفهوم موضوع القضايا منالواضحات، فكيف يمكن أن يكون حاكياً عنها؟!
والحاصل: أنّ ما ذكره للدفاع عن صاحب الكفاية بالنسبة إلى بعضالعناوين الكلّيّة باطل، لامتناع أن يكون الكلّي مرآةً للأفراد، سواء كان أصيلأو انتزاعيّاً.
2ـ واُجيب أيضاً عنه بأنّ الكلّيّات إذا كانت ملحوظة بنحو الإهمالوالجمود لم تكن حاكيةً عن الأفراد والمصاديق، وأمّا إذا كانت ملحوظة بنحوالسريان في الأفراد والجريان فيها فلا إشكال في كونها حاكية عنها ومرآةً لها،فيمكن الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ بهذا اللحاظ.
وفيه: أنّه لا تتحقّق الأفراد للطبيعة إلاّ بعد طيّ مراحل ثلاث:
أ ـ وجود الطبيعة، ب ـ تعدّد الوجود، ج ـ امتياز كلّ فرد عن غيره منالأفراد بالخصوصيّات والتشخّصات الفرديّة.
والماهيّة نسبتها إلى الوجود والعدم سواء، فإنّها من حيث هي ليست إلهي، لا موجودة ولا معدومة، فأصل الوجود ليس داخلاً فيها، فضلاً عنتعدّده والخصوصيّات الفرديّة.
ج1
إن قلت: فما معنى قولهم: إنّ المطلق هو الطبيعة السارية في الأفراد؟
قلت: هذا المعنى وإن تسالم عليه المشهور ومنهم المحقّق الخراساني رحمهالله ، إلاّ أنّالبرهان الذي ذكرناه يدلّ على خلافه، وسيجيئ في باب المطلق والمقيّد أنّللمطلق معنى آخر، وهو أنّ «تمام الموضوع هو الماهيّة».
نعم، لو لوحظ الأفراد مع لحاظ الماهيّة لأمكن الوضع للأفراد، لكنّه منقبيل الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، لا الوضع العامّ والموضوع لهالخاصّ.
والحاصل: أنّ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من إمكان القسم الثالثغير تامّ.
ويبعّده أيضاً أنّا لو فرضنا إمكانه لكان من أقسام المشترك اللفظي، لتكثّرالموضوع له بتكثّر الأفراد، وهو يستلزم أن يكون لنا مشترك لفظي بين معانٍكثيرة غاية الكثرة، وهو بعيد من الأذهان.
إن قلت: بين المقام وبين المشترك اللفظي فرق من وجهين: أحدهما: أنّالوضع هناك متعدّد وفي المقام واحد، الثاني: أنّ المعاني في المشترك اللفظيمتغايرة من حيث الماهيّة، وهاهنا متّحدة، فليس المقام من قبيل المشتركاللفظي.
قلت: ما ذكر من الوجهين ليس بفارق، إذ لا دخل لتعدّد الوضع، أو تغايرالماهيّات في قوام المشترك اللفظي، بل الملاك فيه تعدّد المعاني الموضوع لهوتغايرها ولو بحسب الخصوصيّات الفرديّة، سواء كانت تحت ماهيّة واحدة أوتحت ماهيّات مختلفة، كان الوضع واحداً أو متعدّداً.
وبالجملة: لو فرض إمكان الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ لتعدّدالموضوع له بتعداد الأفراد، ويلزم منه أن يكون لفظ واحد ـ كلفظة «مِن» على
(صفحه154)
القول بكون وضع الحروف كذلك ـ مشتركاً لفظيّاً بين ملايين معنى، وهو وإنأمكن عقلاً، إلاّ أنّه بعيد من الأذهان.
كلام صاحب الكفاية والمحقّق العراقي في القسم الرابع
وأمّا القسم الرابع: فقال المحقّق الخراساني رحمهالله وتلامذته باستحالته.
واستدلّ(1) عليه بأنّه لو كان الآلة لملاحظة الكلّي هو الفرد والخصوصيّة،كعنوان «زيد» مثلاً، فامتناعه واضح، ضرورة أنّ الفرد والخصوصيّة يباينمفهوماً مع مفهوم العامّ والكلّي، ومعه لا يمكن جعله وجهاً وعنواناً له، وأمّا لوكان آلة اللحاظ هو الكلّي المقيّد، كالإنسان المتقيّد بالخصوصيّة الزيديّة أوالعمريّة، ولو بنحو دخول التقيّد وخروج القيد، فكذلك أيضاً، فإنّه مع حفظجهة التقيّد بالخصوصيّة فيه يباين لا محالة مفهوماً مع الإنسان المطلق الجامعبين هذه الحصّة وغيرها، ومع إلغاء جهة التقيّد وتجريده عن الخصوصيّةولحاظه بما أنّه قابل للانطباق عليه وعلى غيره يرجع إلى عموم الوضعوالموضوع له(2).
مقالة المحقّق الرشتي في القسم الرابع
وذهب المحقّق الميرزا حبيب اللّه الرشتي(3) صاحب كتاب «بدائع الأفكار»إلى إمكانه، ولعلّ مراد صاحب الكفاية رحمهالله ببعض الأعلام في قوله: «ولعلّ خفاء
- (1) المستدلّ هو المحقّق العراقي رحمهالله في نهاية الأفكار، وهذا الاستدلال توضيح ما في الكفاية، كما قالالاُستاذ«مدّ ظلّه».
- (2) كفاية الاُصول: 24، ونهاية الأفكار 1 و 2: 37.
- (3) كان من أجلاّء تلامذة الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله . منه مدّ ظلّه.
ج1
ذلك على بعض الأعلام وعدم تمييزه بينهما كان موجباً لتوهّم إمكان ثبوتقسم رابع، وهو أن يكون الوضع خاصّاً مع كون الموضوع له عامّاً»(1) هو هذالمحقّق.
وكيف كان فقداستدلّ لإمكانه بوقوعه، فإنّالواضع للفظ الحيوان مثلاً رأىمن البعيد شبحاً ذا حسّ وحركة اختياريّة، وبملاحظته تصوّر مفهوم الحسّاسالمتحرّك بالإرادة، ثمّ وضع اللفظ لهذا المعنى الكلّي، لا للشّبح المرئي الجزئي(2).
والأحسن أن يمثّل له(3) بوضع الألفاظ والأسامي للمخترعاتوالمصنوعات، فإنّ صانع السيّارة مثلاً تصوّر مصنوعه الموجود في الخارج، ثمّوضع لفظ السيّارة لمعنى كلّي شامل لها ولسائر الأفراد التي تصنع في المستقبل،وواضح أنّ هذا من قبيل الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ.
وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمهالله بأنّ الوضع في هذا القبيل من الأمثلة عامّ،كما كان الموضوع له عامّاً، إذ تصوّر الخاصّ فيها يوجب تصوّر العامّ بنفسه لبوجهه وعنوانه(4).
أقول: إنّا وإن قلنا بتماميّة ما استدلّ به لامتناع هذا القسم في الدورةالسابقة، إلاّ أنّ مقتضى التحقيق خلافه.
فإنّ مغايرة مفهوم الفرد لمفهوم الكلّي لا يوجب عدم تصوّر الكلّي بالوجهوالعنوان عند تصوّر الفرد بعد اتّحاد ماهيّتهما.
- (3) والمحقّق الرشتى رحمهالله مثّل له باُمور: منها: أنّ الطبيب يخترع معجوناً مركّباً من اُمور في علاج مرض،ويضع لفظاً بإزائه، لا من حيث كونه ذلك المركّب، بل من حيث اشتماله على تلك الفائدة. م ح ـ ى.
(صفحه156)
ألا ترى أنّ بعضهم قالوا بمغايرة الإنسان والحيوان الناطق مفهوماً، ومعذلك لا ريب في كون الإنسان حاكياً عن الحيوان الناطق، فالتغاير مفهوماً ليضرّ بالحكاية، فتصوّر زيد مثلاً يوجب تصوّر الإنسان، سيّما إذا لاحظنا زيدبالكلّي المقيّد، أعني «الإنسان المتخصّص بالخصوصيّات الزيديّة» بنحو دخولالتقيّد وخروج القيد، ضرورة أنّ لحاظ التقيّد يتوقّف على لحاظ طرفيه،فكيف يمكن تصوّر «الإنسان المتخصّص بالخصوصيّات الزيديّة» من دونتصوّر نفس الإنسان بأيّ وجه من الوجوه؟!
فانظر إلى وجدانك إذا قلت: «رقبة مؤمنة» فهل يصحّ لك أن تقول: متصوّرت «الرقبة» أصلاً، معتذراً بأنّك لاحظت الرقبة المقيّدة بالإيمان، لالرقبة بنحو الإطلاق؟!
وبعبارة أدقّ: الفرد هو الماهيّة الموجودة المتخصّصة بالخصوصيّات الفرديّة،فإذا تصوّرنا زيداً أو الإنسان المقيّد بالخصوصيّات الزيديّة بنحو دخول التقيّدتصوّرنا أوّلاً ماهيّة الإنسان الموجودة، ثمّ تشخّصها بالخصوصيّات الزيديّة.
فالفرد يكون عنواناً ومرآةً للماهيّة، لدخولها فيه، فتصوّره يستلزمتصوّرها، لكن لا بنفسها، بل بوجهها وعنوانها.
ويؤيّده أنّ الماهيّة دخيلة في التسمية(1)، ألا ترى أنّك إذا سمّيت ولدك زيدلو سُئلت عن أنّك لِمَ لم تجعل اسمه السيّارة؟ قلت في الجواب: هو إنسان، فلابدّله من أسماء الإنسان، وليس هذا الجواب إلاّ لأجل دخول ماهيّة الكلّي فيالفرد، إذ لو لم يكن المعنى الخاصّ حاكياً عن العامّ لما أثّر العامّ في تسميةالخاصّ، فلحاظ الفرد يستلزم لحاظ الكلّي.
- (1) أي في جعل الاسم للأفراد والمصاديق. م ح ـ ى.