ج1
فانياً في المعنى، فإنّه إذا صار فانياً في أحد المعنيين لم يبق لفظ لكي يفنى فيالمعنى الثاني، فكيف يمكن الاستعمال في المعنيين والفناء في الاثنين؟!
وفيه أوّلاً: منع كون حقيقة الاستعمال جعل اللفظ فانياً في المعنى، بل حقيقتهصرف جعله علامة له، ويؤيّده استخدام الفصحاء والبلغاء الألفاظ الجميلةلتفهيم مقاصدهم، مع أنّها لو كانت فانيةً فيها لما كان لذلك وجه، فحقيقةاستعمال اللفظ في المعنى جعله علامةً له، ولا إشكال في إمكان جعل شيءواحد علامةً لاثنين.
وثانياً: فناء الواحد في الاثنين دفعةً من دون تقدّم وتأخّر بينهما كما في المقاملا يمتنع، بل الممتنع ما إذا صار اللفظ فانياً أوّلاً في أحدهما حيث لا يبقى لفظحتّى يمكن فنائه في المعنى المتأخّر، وما نحن فيه ليس كذلك، لأنّ البحث إنّمهو فيما إذا استعمل اللفظ في عرض واحد في المعنيين من دون أن يكون تقدّموتأخّر في البين.
2ـ أن يكون المعوّل عليه تبعيّة اللحاظ في جانب اللفظ، فإنّ المعنىملحوظ باللحاظ الاستقلالي، واللفظ باللحاظ التبعي، فإذا تعدّد المعنى كاناللحاظ الاستقلالي متعدِّداً لا محالة مع أنّه لا يمكن تعدّد اللحاظ التّبعي، لعدمتعدّد اللفظ(1).
وفيه: أنّ لحاظ المتكلّم للفظ وإن كان بتبع لحاظ المعنى، إلاّ أنّه لا ضير فيوحدة اللحاظ في جانب اللفظ وتعدّده في جانب المعنى، فإنّه لا يستلزم إلكون الواحد تابعاً للمتعدّد، ولا برهان على امتناعه.
- (1) هذا الاحتمال أقرب بكلام المحقّق الخراساني من الاحتمال الأوّل الذي كان أساسه كون حقيقةالاستعمال جعل اللفظ فانياً في المعنى. منه مدّ ظلّه.
(صفحه398)
هذا بالنسبة إلى المتكلّم، وأمّا المخاطب فالأمر بالنسبة إليه بالعكس، فإنّهيتصوّر اللفظ أوّلاً، ثمّ ينتقل منه إلى المعنى، لعدم ارتباطه بالمعنى إلاّ من طريقاللفظ وسماعه، فاللحاظ الاستقلالي بالنسبة إلى المخاطب متعلّق باللفظوالتبعي بالمعنى، ولا ضير فيه أيضاً، إذ لا دليل على استحالة كون المتعدّد تابعللواحد.
3ـ أن يكون المعوّل عليه نفس اللحاظ لا تبعيّته، فإن كان اللحاظ فيناحية المعنى واحداً فلابدّ من كونه في ناحية اللفظ أيضاً واحداً، وإن كان فيناحية المعنى متعدّداً ففي ناحية اللفظ أيضاً كان متعدّداً.
فالملاك في وحدة لحاظ اللفظ وتعدّده هو وحدة المعنى وتعدّده(1).
وفيه: أنّ المتكلّم إذا قال: «رأيت عيناً» وأراد به العين الباكية، ثمّ قال ثانياً:«رأيت عيناً» وأراد به نفس المعنى السابق فلا محالة كان لحاظ اللفظ متعدّدمع كون المعنى واحداً.
فالملاك في تعدّد لحاظ اللفظ ووحدته تعدّد الاستعمال ووحدته، لا تعدّدالمعنى ووحدته، فيمكن أن يكون المعنى متعدّداً ولحاظ اللفظ واحداً أوبالعكس.
ولا يخفى أنّ جوابنا على الاحتمالين الأخيرين مبني على منع الصغرى(2)،توضيح ذلك: أنّ الاستدلال على الاحتمال الثاني عبارة عن أنّ تبعيّة لحاظاللفظ يوجب تعدّده إذا تعدّد اللحاظ في جانب المعنى، وتعدّد اللحاظ المتعلّقبلفظ واحد ممتنع، وعلى الاحتمال الأخير عبارة عن أنّ لحاظ اللفظ لابدّ من
- (1) ذكرنا هذا الاحتمال لتكميل الفائدة وإلاّ فهو بعيد عن مراد صاحب الكفاية رحمهالله . منه مدّ ظلّه.
- (2) وأمّا الاحتمال الأوّل فقد عرفت منعه بالنسبة إلى كلتا المقدّمتين. م ح ـ ى.
ج1
أن يكون مساوياً للحاظ المعنى عدداً، فلابدّ من تعدّد لحاظ اللفظ في المقامحيث إنّ المعنى ولحاظه يكون متعدّداً، ولا يمكن تعلّق لحاظين أو أكثر بلفظواحد.
ونحن اخترنا في كلا الاحتمالين منع الصغرى، إذ الكبرى أعني استحالةتعلّق لحاظين بلفظ واحد لا تقبل المنع، فإنّ لحاظ الشيء عبارة عن تصوّرهوحضوره في الذهن، ولا يمكن حضور شيء واحد في الذهن مرّتين في زمانواحد، كما لا يمكن تعلّق علمين بشيء واحد كذلك كما لا يخفى.
والحاصل: أنّ ما استدلّ المحقّق الخراساني رحمهالله على استحالة استعمال اللفظ فيأكثر من معنى واحد باطل بجميع احتمالاته الثلاثة.
رأي المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
واستدلّ المحقّق النائيني رحمهالله على الاستحالة بأنّ استعمال اللفظ في المعنيينبنحو الاستقلال يستلزم تعلّق اللحاظ الاستقلالي بكلّ واحد منهما في آنٍواحد ورتبة واحدة كما لو لم يستعمل اللفظ إلاّ فيه، ومن الواضح أنّ النفس لتستطيع على أن تجمع بين لحاظين مستقلّين كذلك، ولا ريب في أنّ الاستعمالفي أكثر من معنى يستلزم ذلك، والمستلزم للمحال محال(1).
نقد نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله
وفيه: أنّ للاُمور المادّيّة ضيقاً يمنع من تحقّق أمرين فيها، كما لا يكون جسمواحد معروضاً للبياض والسواد في آنٍ واحد، بخلاف النفس، فإنّها جوهرمجرّد، لها صفحة واسعة، تقتدر على الجمع بين لحاظين مستقلّين وعلى إحضار
- (1) أجود التقريرات 1: 76.
(صفحه400)
أمرين مختلفين في صفحتها في آنٍ واحد، ويدلّنا على ذلك قضاوة الوجدانبملاحظة اُمور:
1ـ أنّ النفس تقدر على رؤية شخصين أو سماع صوتين في آنٍ واحد، وعلىالرؤية والسمع أو اللّمس والشمّ كذلك.
2ـ أنّ الموضوع في القضايا الحمليّة وإن كان متقدّماً على المحمول بحسباللفظ، إلاّ أنّهما حاضران عند النفس معاً في آنٍ واحد، لأنّ ملاك الحمل هوالاتّحاد والهوهويّة.
3ـ وإن أبيت عن ذلك كلّه فلا ريب في أنّك إذا قلت: «السواد والبياضمتضادّان» كان السواد والبياض كلاهما حاضرين في نفسك في لحظة تلفّظكبكلمة «متضادّان» لعدم إمكان انفكاكهما عن النفس في هذه اللحظة كما ليخفى.
إقامة برهان آخر على الامتناع ونقده
واستدلّ(1) بعضهم على الاستحالة بأنّ اللفظ وجود تنزيلي لطبيعي المعنىويمتنع اجتماع وجودين في لباس وجود واحد.
وبعبارة اُخرى لنا اُمور ثلاثة: وجود حقيقي للمعنى، ووجود حقيقي للفظ،ووجود تنزيلي للمعنى، فإنّا إذا قلنا: «زيد إنسان» كان المراد بالموضوع معنىكلمة «زيد» لا لفظها، وإذا قلنا: «زيد لفظ» كان المراد من الموضوع لفظ هذهالكلمة لا معناها، والحمل في كليهما شائع صناعي، لكون الموضوع في الأوّل
- (1) إنّ هذا المستدلّ قائل بأنّ لكلّ شيء وجودات أربع: 1ـ حقيقي خارجي، 2ـ ذهني، 3ـ لفظي، 4ـ كتبي،ولبعض الأشياء وجود خامس، وهو الوجود الإنشائي، كالطلب، فإنّ مفاد هيئة «افعل» وجوده الإنشائي.منه مدّ ظلّه.
ج1
وهو زيد الموجود في الخارج مصداقاً من مصاديق مفهوم الإنسان حقيقةً، وفيالثاني وهو لفظ زيد مصداقاً من مصاديق مفهوم اللفظ كذلك، وكلّما تلفّظنبلفظ زيد سواء كان في هذين المثالين أو غيرهما كان اللفظ وجوداً تنزيليّللمعنى، فعلى هذا لفظ «زيد» يكون وجوداً حقيقيّاً لمفهوم «اللفظ» ووجودتنزيليّاً لمعناه وهو زيد الموجود في الخارج، وكما يمتنع تعدّد وجوده الحقيقيبوجود واحد، يمتنع أيضاً تعدّد وجوده التنزيلي كذلك(1).
وفيه أوّلاً: أنّ دعوى كون اللفظ من أنحاء وجود المعنى مجازفة، بل لا يمكنذلك، فإنّ اللفظ صوت، وهو من مقولة الكيف، والمعنى من مقولة الجوهرمثلاً، ويستحيل اجتماعهما، لتباين المقولات بتمام الذوات.
نعم، لا بأس به لو اُريد مجرّد الذوق والمسامحة والتخيّل.
وثانياً: أنّ الممتنع إنّما هو اجتماع وجودين حقيقيّين، لا تنزيليّين، كيف وقداجتمع في قولك: «زيد لفظ» وجودان: أحدهما حقيقي والآخر تنزيلي، فإنّلفظ «زيد» وجود حقيقي لمفهوم «لفظ» وتنزيلي لمعناه بناءً على ما ذهب إليهالمستدلّ من كون اللفظ وجوداً تنزيليّاً للمعنى، ولو كان اجتماع وجودينتنزيليّين مستحيلاً لاستحال اجتماع الحقيقي والتنزيلي بطريق أولى، لكونه
- (1) إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، بعد ما وصل شيخنا العلاّمة الاُستاذ الأعظم«مدّ ظلّه» إلى هذا الموضع منمحاضراته الشريفة، ابتليت الاُمّة الإسلاميّة بالمصيبة العظمى التّي أحرقت القلوب وأوجعت الصدوروكسرت الظهور، أعني ارتحال الفقيه المجاهد الذي كان صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعلأمر مولاه، قائد الثورة الإسلاميّة ووليّ أمر الاُمّة، الإمام الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدّائن بدينالحقّ، الحابس نفسه على ذات اللّه، آية اللّه العظمى الحاج آقا روح اللّه الموسوي الخميني أعلى اللّه مقامهوحشره مع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصدّيقين.
اللّهمّ اجعله نفساً مطمئنّةً راجعةً إليك، راضيةً مرضيّةً، داخلة في جنّتك، ووفّقنا لنتأسّى به في تحصيلالعلم والعمل، والجهاد في سبيلك، بحقّ محمّد وآله الطاهرين، آمّين.
وكان وقوع هذه الحادثة الهائلة ليلة الأحد 14/3/ 1368 هـ .ش، 29 شوّال 1409 هـ .ق. م ح ـ ى.