مع أنّه يلزم أن لا يصدق على الخارجيّات، لامتناع صدق الكلّي العقليعليها، حيث لا موطن له إلاّ الذهن، فامتنع امتثال مثل «سر من البصرة» إلبالتجريد وإلقاء الخصوصيّة.
هذا، مع أنّه ليس لحاظ المعنى حالةً لغيره في الحروف إلاّ كلحاظه في نفسهفي الأسماء، وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبراً في المستعمل فيه فيها كذلك ذاكاللحاظ في الحروف كما لا يخفى.
وبالجملة: ليس المعنى في كلمة «من» ولفظ «الابتداء» مثلاً إلاّ الابتداء،فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلاًّ كذلك لا يعتبر في معناهلحاظه في غيرها وآلةً، وكما لا يكون لحاظه فيه موجباً لجزئيّته فليكن كذلكفيها.
إن قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون مثلكلمة «من» ولفظ «الابتداء» مترادفين صحّ استعمال كلّ منهما في موضعالآخر، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطلبالضرورة كما هو واضح.
قلت: الفرق بينهما إنّما هو في اختصاص كلّ منهما بوضع، حيث إنّه وضعالاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك،بل بما هو حالة لغيره كما مرّت الإشارة إليه غير مرّة.
فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجباً لعدم جوازاستعمال أحدهما في موضع الآخر، وإن اتّفقا فيما له الوضع.
وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّ نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكونمن خصوصيّاته ومقوّماته(1).
إنتهى كلامه رحمهالله .
نقد نظريّة المحقّق الخراساني رحمهالله في وضع الحروف
أقول: كلامه رحمهالله في مقام الفرق بين الاسم والحرف ذو احتمالين:
أ ـ أنّ الفرق بينهما إنّما هو شرط الواضع، بمعنى أنّه شرط على المستعملينوألزمهم بأن لا يستعملوا الاسم إلاّ فيما إذا لوحظ المعنى مستقلاًّ، ولا الحرفإلاّ فيما إذا لوحظ حالةً للغير.
وفيه أوّلاً: أنّه ليس في معاجم اللغة من هذا الشرط والإلزام عين ولا أثر،فمن أين علمتم به مع أنّ هذه المعاجم هي الطريق الوحيد لمعرفة مثل هذهالاُمور؟!
وثانياً: لا يجب رعاية شروط الواضع فيما إذا لم يكن لها دخل فيما وضع له.
نعم، لو قلنا بأنّ الواضع هو اللّه سبحانه لوجب اتّباع جميع أوامره التي منهشرط الواضع، بخلاف ما إذا قلنا بأنّه هو البشر كما عرفت.
إن قلت: فكيف يجب رعاية الشروط التي في ضمن العقد حيث يجب علىالمشتري خياطة الثوب التي التزم بها في ضمن عقد البيع؟
قلت: لزوم رعاية هذا القسم من الشروط إنّما هو لأجل قبولها من قبل من
ج1
اشترط عليه، فإنّ المشتري في المثال المذكور التزم بخياطة الثوب، على أنّ«المؤمنون عند شروطهم»(1) يدلّ على لزوم رعايتها.
بخلاف المقام، فإنّ المستعملين لم يلتزموا برعاية ما شرط عليهم الواضع،ولا دليل على لزوم رعاية شرط ضمن الوضع.
وثالثاً: أنّ الاستعمال إمّا حقيقي أو مجازي أو غلط، ولا ريب في أنّ استعمالكلمة «من» مكان «الابتداء» وبالعكس من قبيل الثالث، مع أنّه لو لم يكنبينهما فرق إلاّ في شرط الواضع لكان صحيحاً، ضرورة أنّ تخلّف الشرط ليوجب بطلان المشروط، ألا ترى أنّ تخلّف شرط ضمن العقد لا يستلزمبطلانه، غاية الأمر يوجب ثبوت الخيار للمشروط له، ضرورة أنّ المسألة منقبيل تعدّد المطلوب، فإنّ البيع مثلاً مطلوب، وخياطة الثوب مطلوب آخرضمني، وتخلّف هذا المطلوب الضمني لا يستلزم بطلان المعاملة التي هيالمطلوب الأصلي.
ب ـ أنّ الواضع نظر إلى المفاهيم فوجدها نوعين:
أحدهما: المفاهيم الأصيلة التي لا يمكن أن تقع وصفاً وحالة للغير، كمفهوم«الإنسان» فوضع لفظ الإنسان بنحو الوضع العامّ والموضوع له العامّ لذلكالمفهوم الأصيل.
الثاني: المفاهيم التي يمكن أن تلاحظ مستقلّة مرّة وحالةً للغير اُخرى،ويحتاج المستعملون أيضاً إلى كلا النوعين، كمفهوم «الابتداء» فإنّ المستعملقد يحتاج إلى هذا المفهوم مستقلاًّ في مقابل مفهوم «الانتهاء» وقد يحتاج إليهوصفاً للغير ومضافاً إلى الغير، كأن يكون وصفاً للسير ومضافاً إلى البصرة.
- (1) وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح، الباب 20 من أبواب المهور، الحديث 4.