ج1
رأي المشهور في المقام
وذهب المشهور إلى أنّ ثلاثة من الأقسام الثمانية المتقدّمة أعراض ذاتيّة بلإشكال ولا خلاف، وهي: القسم الأوّل والثالث والرابع، أي ما لا واسطة أصلبينه وبين معروضه، وما كان عروضه بواسطة أمر مساوٍ داخلي أو خارجي،وأنّ الأربعة الأخيرة أعراض غريبة، وهي ما كان عروضه بواسطة الخارجالأعمّ أو الأخصّ أو المباين بقسميه.
واختلفوا في القسم الثاني، أعني ما كان عروضه لأجل الجزء الأعمّ.
نظريّة العلاّمة الطباطبائي رحمهالله في المسألة
وللعلاّمة الطباطبائي رحمهالله كلام ينتج ذاتيّة خصوص ما لا واسطة بينه وبينمعروضه وغرابة ما عداه، فإنّه قال في حاشية الأسفار: العرض الذاتي ميعرض الشيء لذاته فقط، يعني أنّ المعروض بذاته يقتضي العرض، من دونأن يكون بينهما واسطة أصلاً، سواء كانت الواسطة مساوية أو أعمّ أو أخصّ.
وقال في بيان مجرى هذه الأحكام: إنّ ذلك كلّه إنّما يجري في العلومالبرهانيّة من حيث جريان البرهان فيها، وأمّا العلوم الاعتباريّة(1)، التيموضوعاتها اُمور إعتباريّة غير حقيقيّة فلا دليل على جريان شيء من هذهالأحكام فيها أصلاً. واستدلّ على ذاتيّة ما عروضه بلا واسطة، وغرابة ما عداهفي العلوم البرهانيّة بأنّ هذه العلوم تبتني على البرهان، وحيث إنّ البرهانقياس منتج لليقين يجب أن يتألّف من مقدّمات يقينيّة، ولا تكون المقدّمةكذلك إلاّ إذا اجتمع فيها شرائط أربعة:
- (1) كالفقه واُصوله والصرف والنحو. منه مدّ ظلّه.
(صفحه28)
1ـ أن تكون ضروريّة، أي في الصدق، وإن كانت ممكنة بحسب الجهة(1)،وإلاّ لم يمتنع الطرف المخالف فلم يحصل يقين، وهذا خلف.
2ـ أن تكون دائمة، أي في الصدق بحسب الأزمان، وإلاّ كذب في بعضالأزمان، فلم يمتنع الطرف المخالف، فلم يحصل يقين، وهذا خلف.
3ـ أن تكون كلّيّة، أي في الصدق بحسب الأحوال، وإلاّ كذب في بعضها،فلم يمتنع الطرف المخالف، فلم يحصل يقين، وهذا خلف.
4ـ أن تكون ذاتيّة المحمول للموضوع، أي بحيث يوضع المحمول بوضعالموضوع ويرفع برفعه مع قطع النظر عمّا عداه، إذ لو رفع مع وضع الموضوعأو وضع مع رفعه لم يحصل يقين، وهذا خلف. وهذا هو الموجب لكون المحمولالذاتي مساوياً لموضوعه(2)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
ولا يخفى أنّ نتيجة كلامه رحمهالله غرابة سبعة من الأقسام المتقدِّمة للعرض،وذاتيّة قسم واحد فقط في العلوم البرهانيّة.
وأساس استدلاله على ذلك أنّ العرض إذا حمل على معروضه بواسطةٍ لينتج اليقين.
نقد ما أفاده العلاّمة الطباطبائي رحمهالله في المقام
وفيه: أنّ يقينيّة القضيّة لا تتوقّف على عدم تحقّق الواسطة في عروضالمحمول على الموضوع، بل إذا حمل عليه بواسطة أمر مساوٍ داخلي(3) أو
- (1) توضيح ذلك: أنّه يمكن أن تكون قضيّة ممكنة بحسب الجهة مع كونها ضروريّة في الصدق، مثل قولنا:«الإنسان بالفعل موجود» فإنّ الموجودية أمر ممكن للإنسان، لاستوائه إلى الوجود والعدم ذاتاً، ومع ذلكهذه القضيّة ضروريّة الصدق، لتلبّس الإنسان بلباس الوجود في الخارج وتحقّق أفراد منه فيه. منه مدّ ظلّه.
- (2) الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة 1: 30.
- (3) كعروض العلم على الإنسان لكونه ناطقاً. منه مدّ ظلّه.
ج1
خارجي(1)، بل بواسطة جزئه الأعمّ(2) ينتج اليقين أيضاً.
فلا وجه للعدول عمّا ذهب إليه المشهور في تفسير العرض الذاتي حيثقالوا: إنّه ما يلحق الشيء لذاته أو لأمر يساويه(3).
نقد نظريّة المشهور حول العرض الذاتي والغريب
لكن يرد على مقالة المشهور أنّه يستلزم كون البحث في كثير من مسائلالعلوم بحثاً عن أعراضها الغريبة، لأنّ موضوع المسائل نوع بالنسبة إلىموضوع نفس العلم، فانظر إلى علم النحو الذي موضوعه الكلمة والكلام،فإنّا نبحث فيه عن مرفوعيّة الفاعل، ومنصوبيّة المفعول، ومجروريّة المضافإليه، وكلّ واحد من الفاعل والمفعول والمضاف إليه نوع من الكلمة.
فالمرفوعيّة مثلاً عرض ذاتي للفاعل، لكنّها عرض غريب بالنسبة إلىالكلمة، لعروضها عليها بواسطة الفاعل الذي هو أخصّ منها، والمشهور اتّفقوعلى غرابة ما كان عروضه بواسطة الخارج الأخصّ(4). وقد يكون الأمربالعكس في بعض العلوم، بمعنى أنّ موضوع العلم أخصّ من موضوعاتمسائله، كعلم الاُصول(5)، فإنّا نبحث فيه عن دلالة صيغة الأمر على الوجوب،
- (1) كعروض الضحك على الإنسان لكونه متعجِّباً. منه مدّ ظلّه.
- (2) كعروض المشي على الإنسان لكونه حيواناً. منه مدّ ظلّه.
- (3) واختلف المشهور في ذاتيّة ما يلحق الشيء بواسطة جزئه الأعمّ وغرابته كما تقدّم. منه مدّ ظلّه.
- (4) إن قلت: لِمَ حكمت بكون الفاعل خارجاً بالنسبة إلى الكلمة مع أنّه نوعها، وهي جنسه؟
قلت: لأنّ الجنس وإن كان جزءً مقوّماً للنوع، إلاّ أنّ النوع خارج عن ماهيّة الجنس، لعدم كونه جنساً أوفصلاً له. منه مدّ ظلّه.
- (5) والحقّ ما اختاره«مدّ ظلّه» في مبحث النسبة بين موضوع العلم وموضوعات مسائله من أنّ النسبة بينهمفي علم الاُصول عموم من وجه، كما سيأتي إن شاء اللّه. م ح ـ ى.
(صفحه30)
وصيغة النهي على الحرمة مثلاً، فالموضوع في هاتين المسألتين صيغة الأمروصيغة النهي، ولاريب في كون كلّ منهما أعمّ من موضوع علم الاُصول، سواءجعلناه الأدلّة الأربعة بما هي هي، أو بما هي أدلّة، أو الحجّة في الفقه، لأنّا لنبحث عن خصوص صيغة الأمر والنهي المستعملة في الكتاب والسنّة، بل عنالأعمّ منها، إذ لا مجال للتمسّك باللغة(1) وبناء العقلاء(2) لإثبات دلالة الأمرعلى الوجوب والنهي على الحرمة لو اختصّ البحث بالأوامر والنواهيالقرآنيّة والروائيّة.
فعلم منه أنّ صيغة الأمر والنهي المبحوث عنها في الاُصول كما ترتبطبالكتاب والسنّة ترتبط أيضاً باللغة وبناء العقلاء، وتعمّ الأمر والنهيالصادرين من الموالي العرفيّة.
والأمر في المباحث العقليّة أوضح، فإنّ البحث مثلاً عن الملازمة العقليّة بينوجوب المقدّمة ووجوب ذيها مسألة عقليّة كلّيّة تعمّ الشرعيّات وغيرها.
فإذا حكم العقل بالملازمة بينهما فنحن نستنتج من تلك المسألة الكلّيّة أنّوجوب الصلاة في الشريعة يستلزم وجوب الوضوء وسائر شرائطها.
والحاصل: أنّ موضوع بعض العلوم نوع بالنسبة إلى موضوعات مسائلها،فحمل محمولات تلك المسائل على موضوع العلم من قبيل العروض بواسطةالجزء الأعمّ، واختلف المشهور في كونها أعراضاً ذاتيّة أو غريبة كما تقدّم.
وبالجملة: لا يمكن الذهاب إلى مقالة المشهور في المقام، لاستلزامها اتّفاقهمعلى كون البحث في مسائل العلوم بحثاً عن أعراضها الغريبة فيما إذا كان
- (1) حيث نقول: صيغة افعل وضعت لإفادة الوجوب، وصيغة لا تفعل لإفادة الحرمة. م ح ـ ى.
- (2) حيث نقول: إذا قال المولى: «اُدخل السوق» أو «لا تدخل الدار» يفهم العقلاء الوجوب من الأوّل،والحرمة من الثاني. م ح ـ ى.
ج1
موضوع العلم من قبيل الجنس بالنسبة إلى موضوعات المسائل، والأمر كذلكعند بعضهم فيما إذا كان من قبيل النوع بالنسبة إليها.
نظريّة صدر المتألّهين رحمهالله في العرض الذاتي والغريب
قال صدر المتألّهين: إنّ موضوع كلّ علم ـ كما تقرّر ـ ما يبحث فيه عنعوارضه الذاتيّة.
ثمّ نقل كلام المشهور حول العرض الذاتي بقوله: وقد فسّروا العرض الذاتيبأنّه ما يلحق الشيء لذاته أو لأمر يساويه.
ثمّ قال: فأشكل الأمر على جمع، حيث رأوا أنّه لا ينطبق على كثير منمسائل العلوم، فإنّ البحث فيها عن عوارض أنواع موضوع العلم لا عنعوارض نفس الموضوع(1).
ولأجل هذا الإشكال اضطرّوا إلى توجيه كلام المشهور تارةً: بأنّ العرضالذاتي للنوع عرض ذاتي للجنس أيضاً، فالمرفوعيّة التي يبحث عنها في مبحثالفاعل من علم النحو عرض ذاتي بالنسبة إلى الكلمة، كما أنّها كذلك بالنسبةإلى الفاعل(2).
واُخرى: بالفرق بين محمول العلم ومحمول المسألة ـ كما فرّقوا بينموضوعيهما ـ بأنّ محمول العلم ما ينحلّ إليه محمولات المسائل على طريقالترديد.
فالمرفوعيّة مثلاً في مسألة «كلّ فاعل مرفوع» لا تكون من محمولاتالكلمة، بل من محمولات الفاعل، والمنصوبيّة في مسألة «كلّ مفعول منصوب»
- (1) تقدّم توضيحه آنفاً في إشكال الاُستاذ«مدّ ظلّه» على المشهور. م ح ـ ى.
- (2) هذا في الحقيقة لا يكون توجيهاً لكلام المشهور، بل عدول عنه إلى غيره. منه مدّ ظلّه.