(صفحه98)
ثمّ قال: وعليه فالتعريف يرتكز على ركيزتين وتدور المسائل الاُصوليّةمدارهما وجوداً وعدماً:
الركيزة الاُولى: أن تكون استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة من المسألة منباب الاستنباط والتوسيط لا من باب التطبيق ـ أي تطبيق مضامينها بنفسهعلى مصاديقها ـ كتطبيق الطبيعي على أفراده.
والنكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاُصول، هي الاحتراز عن القواعدالفقهيّة، فإنّها قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة، وليكون ذلك من باب الاستنباط والتوسيط، بل من باب التطبيق، وبذلكخرجت عن التعريف.
ولكن ربما يورد بأنّ اعتبار ذلك يستلزم خروج عدّة من المباحثالاُصوليّة المهمّة عن علم الاُصول، كمباحث الاُصول العمليّة الشرعيّةوالعقليّة، والظنّ الانسدادي بناءاً على الحكومة، فإنّ الاُولى منهالا تقع فيطريق استنباط الحكم الشرعي الكلّي، لأنّ إعمالها في مواردها إنّما هو من بابتطبيق مضامينها على مصاديقها وأفرادها، لا من باب استنباط الأحكامالشرعيّة منها وتوسيطها لإثباتها، والأخيرتين منها لا تنتهيان إلى حكمشرعي أصلاً لا واقعاً ولا ظاهراً.
وبتعبير آخر: إنّ الأمر في المقام يدور بين محذورين: فإنّ هذا الشرط علىتقدير اعتباره في التعريف يستلزم خروج هذه المسائل عن مسائل هذا العلم،فلا يكون جامعاً، وعلى تقدير عدم اعتباره فيه يستلزم دخول القواعد الفقهيّةفيها، فلا يكون مانعاً.
فإذاً لابدّ أن نلتزم بأحد محذورين: فإمّا أن نلتزم باعتبار هذا الشرطلتكون نتيجته خروج هذه المسائل عن كونها اُصوليّة، أو نلتزم بعدم اعتباره
ج1
لتكون نتيجته دخول القواعد الفقهيّة في التعريف، ولا مناص من أحدهما.
والتحقيق في الجواب عنه هو أنّ هذا الإشكال مبتنٍ على أن يكون المرادبالاستنباط المأخوذ ركناً في التعريف، الإثبات الحقيقي بعلم أو علمي، إذ علىهذا لا يمكن التفصّي عن هذا الإشكال أصلاً، ولكنّه ليس بمراد منه، بل المرادبه معنى جامع بينه وبين غيره، وهو الإثبات الجامع بين أن يكون وجدانيّاً أوشرعيّاً أو تنجيزيّاً أو تعذيريّاً، وعليه فالمسائل المزبورة تقع في طريقالاستنباط، لأنّها تثبت التنجيز مرّةً والتعذير اُخرى، فيصدق عليها حينئذٍالتعريف، لتوفّر هذا الشرط فيها، ولا يلزم ـ إذاً ـ محذور دخول القواعد الفقهيّةفيه.
توضيحه: أنّا إذا شككنا في وجوب صلاة الجمعة فأجرينا استصحابوجوبها كان منجّزاً على تقدير موافقته للواقع، ومعذّراً على تقدير مخالفتهوكونها محرّمةً واقعاً، بخلاف القاعدة الفقهيّة، فإنّها لا منجّزيّة ولا معذّريّة فيها،بل لا تكون إلاّ من قبيل تطبيق الكلّي على المصاديق والطبيعي على الأفراد.
نعم، يرد هذا الإشكال على التعريف المشهور، وهو: «العلم بالقواعدالممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة» فإنّ ظاهرهم أنّهم أرادوبالاستنباط، الإثبات الحقيقي، وعليه فالإشكال وارد، ولا مجال للتفصّي عنهـ كما عرفت ـ .
ولو كان مرادهم المعنى الجامع الذي ذكرناه، فلا وقع له أصلاً، كما مرّ.
الركيزة الثانية: أن يكون وقوعها في طريق الحكم بنفسها من دون حاجةإلى ضمّ كبرى اُصوليّة اُخرى، وعليه فالمسألة الاُصوليّة هي المسألة التيتتّصف بذلك.
ثمّ إنّ النكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاُصول أيضاً هي أن لا تدخل
(صفحه100)
فيه مسائل غيره من العلوم، كعلم النحو والصرف واللغة والرجال والمنطقونحوها، فإنّها وإن كانت دخيلةً في استنباط الأحكام الشرعيّة واستنتاجهمن الأدلّة، فإنّ فهم الحكم الشرعي منها يتوقّف على علم النحو ومعرفةقوانينه من حيث الإعراب والبناء، وعلى علم الصرف ومعرفة أحكامه منحيث الصحّة والاعتلال، وعلى علم اللغة من حيث معرفة معاني الألفاظ ومتستعمل فيه، وعلى علم الرجال من ناحية تنقيح أسانيد الأحاديث وتمييزصحيحها عن سقيمها وجيّدها عن رديئها، وعلى علم المنطق، لمعرفة صحّةالدليل وسقمه، ولكن كلّ ذلك بالمقدار اللازم في الاستنباط لا بنحو الإحاطةالتامّة، فلو لم يكن الإنسان عارفاً بهذه العلوم كذلك، أو كان عارفاً ببعضهدون بعضها الآخر، لم يقدر على الاستنباط، إلاّ أنّ وقوعها ودخلها فيه ليكون بنفسها وبالاستقلال، بل لابدّ من ضمّ كبرى اُصوليّة، وبدونه لا تنتجنتيجةً شرعيّة أصلاً، ضرورة أنّه لا يترتّب أثر شرعي على وثاقة الراوي ما لمينضمّ إليها كبرى اُصوليّة، وهي حجّيّة الرواية، وهكذا.
وبذلك قد امتازت المسائل الاُصوليّة عن مسائل سائر العلوم، فإنّ مسائلسائر العلوم وإن كانت تقع في طريق الاستنباط كما عرفت، إلاّ أنّها لا بنفسها،بل لابدّ من ضمّ كبرى اُصوليّة إليها.
وهذا بخلاف المسائل الاُصوليّة، فإنّها كبريات لو انضمّت إليهصغرياتها، لاستنتجت نتيجة فقهيّة من دون حاجة إلى ضمّ كبرى اُصوليّةاُخرى(1).
هذا ملخّص كلام بعض الأعلام في المقام.
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 11.
ج1
نقد مذهب السيّد الخوئي«مدّ ظلّه» حول تعريف علم الاُصول
وفيه ـ مضافاً إلى عدم صحّة أخذ العلم في التعريف كما مرّ مراراً ـ أنّ تعميمالاستنباط بحيث يشمل المنجّزيّة والمعذّريّة ليس في محلّه، فإنّه اُضيف إلىالأحكام، ومن الواضح أنّ ما يكون حجّيّته بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة ليس منطرق إثبات الحكم الشرعي، كيف وليس في البين إلاّ قضيّتان شرطيّتان، وهم«إن كان الدليل مطابقاً للواقع فالواقع يتنجّز، وإن كان مخالفاً له فنحنمعذورون في مخالفته» فإذا قام خبر الواحد مثلاً على وجوب صلاة الجمعةوقلنا بمقالة المحقّق الخراساني رحمهالله في حجّيّة الأمارات من أنّها بمعنى المنجّزيّةعند المصادفة والمعذّريّة عند المخالفة، فوجوبها يصير منجّزاً علينا إن كانتواجبة في الواقع أيضاً، ونحن معذورون في ارتكاب الحرام إن كانت محرّمةواقعاً، فأين إثبات الحكم الشرعي به؟!
لا يقال: إذا قام خبر زرارة مثلاً على وجوب صلاة الجمعة حصل لنالظنّ بالحكم الشرعي، فصدق الاستنباط، لأنّه أعمّ من الاستنباط القطعيوالظنّي.
فإنّه يقال: حجّيّة خبر الواحد لا تتوقّف على إفادة الظنّ، فأين الاستنباطالظنّي فيما إذا لم يحصل به الظنّ بالحكم الشرعي.
على أنّ هذا التعريف دوريّ، لأنّ مسائل علم الاُصول لاتعرف إلبتعريفه(1)، فلا تعرف الكبريات الاُصوليّة إلاّ به مع كونها مأخوذة فينفس التعريف، حيث قال: «من دون حاجة إلى ضميمة كبرى اُصوليّة اُخرىإليها».
- (1) لأنّ العلم عبارة عن نفس مسائله. م ح ـ ى.
(صفحه102)
6ـ كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في تعريف علم الاُصول
وعرّفه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بأنّه «هو القواعد الآليّة التييمكن أن تقع كبرى(1) استنتاج الأحكام الكلّيّة الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفةالعمليّة».
فيخرج بالآليّة القواعد الفقهيّة، لأنّها وإن كانت تقع كبرى استنتاجالأحكام، لكنّها قواعد استقلاليّة ينظر فيها لا آليّة ينظر بها، لأنّ قاعدة «ميضمن» وعكسها مثلاً حكم فرعي إلهي منظور فيها على فرض ثبوتها،وقواعد الضرر والحرج والغرر أيضاً كذلك، فإنّها مقيّدات للأحكام بنحوالحكومة، فلا تكون آليّة لمعرفة حال الأحكام.
وإنّما قلنا: «يمكن أن تقع» لأنّ مناط الاُصوليّة هو الإمكان لا الوقوعالفعلي، فالبحث عن حجّيّة القياس والشهرة الفتوائيّة والإجماع المنقولمباحث اُصوليّة، مع أنّ المشهور قالوا بعدم حجّيّة بعضها، وقام الإجماع علىعدم اعتبار بعض آخر، وكذلك كون البحث عن حجّيّة خبر الواحد اُصوليّأوضح من أن يخفى مع أنّ بعض القدماء كالسيّد المرتضى وابن إدريس ذهبوإلى عدم حجّيّته، وهذا لا يضرّ بأصوليّته عندهم أيضاً.
وخرج مباحث سائر العلوم الدخيلة في استنتاج الأحكام، كالصرفوالنحو واللغة بقولنا: «تقع كبرى» لأنّها وإن كانت قواعد آليّة دخيلة فياستنتاجها، لكنّها لا تقع كبرى القياس كما هو واضح.
ولم نقيّد الأحكام بالعمليّة، لئلاّ يخرج الوضعيّات، لأنّ الحكم بنجاسة الدممثلاً ليس حكماً عمليّاً. نعم، وجوب الاجتناب عن النجس حكم عملي، لكنّه
- (1) في تهذيب الاُصول: «في كبرى» لكنّه غير صحيح. منه مدّ ظلّه.