هذا حاصل الدقّة والتأمّل في كلام المحقّق الخراساني رحمهالله .
وفي كلامه مضافاً إلى إقامة البرهان على مذهبه نكتتان:
الاُولى: أنّ المراد بالغرض في المقام هو غرض تدوين العلم الذي له دخلفي جمع مسائل كثيرة واعتبارها علماً واحداً، لا الغرض في مقام التعلّم، فليتوقّف كون مسألة من مسائل علم على تشخيص المتعلّم، فما كان دخيلاً فيغرض تدوين علم الفقه مثلاً يكون مسألة فقهيّة، وإن لم نعلم بها، وما لم يكنكذلك لا يكون من مسائل الفقه، وإن تخيّلنا كونه منها.
الثانية: أنّ العلم لا يتحقّق قبل تدوينه، إذ ليس لنا مجموعة مسائل نسمّيهبالعلم قبل التدوين، فإذا دوّن مسائل النحو مثلاً نقول: «هذا علم النحو» وأمّقبل التدوين فلا غرض في البين ولا مسائل دخيلة فيه، فلا علم لنا، لأنّه ليكون إلاّ مجموعة المسائل الدخيلة في الغرض.
فما يستفاد من كلام المحقّق الخراساني رحمهالله اُمور ثلاثة:
1ـ إقامة البرهان على كون التمايز بين العلوم بتمايز الأغراض.
2ـ أنّ المراد بالغرض هو الغرض في مقام التدوين لا في مقام التعلّم.
3ـ أنّ العلم لا يتحقّق إلاّ بعد تدوينه.
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في ملاك تمايز العلوم
وما قيل أو يمكن أن يقال في ردّ كلامه رحمهالله وجوه:
الأوّل: اُورد عليه بأنّ الأغراض المترتّبة على العلوم متأخّرة عنها بمراحل،إذ لابدّ من وجود مسائل العلم أوّلاً، ثمّ تعلّمها ثانياً، ثمّ العمل بها ثالثاً كييترتّب الغرض، ألا ترى أنّ مجرّد المسائل النحويّة المدوّنة في كتاب السيوطيمثلاً لا تؤثّر في «صون اللسان عن الخطأ في المقال» لو لم نتعلّمها، أو لم نعمل
ج1
بها في المحاورات بعد التعلّم؟
فالأغراض المترتّبة على العلوم متأخّرة عنها بمراحل، فكيف يمكن تمايزالمتقدّم بالأمر المتأخّر؟!
وبعبارة اُخرى: تمايز العلوم لابدّ من أن يكون في مرتبة نفس مسائلها أوقبلها، فلا يمكن تمايزها بالأغراض المتأخّرة عنها بمراتب.
ويمكن الجواب عنه بأنّه ناشٍ عن الخلط بين العلّة الغائيّة في الخارج وفيالذهن، فإنّ العلّة الغائيّة بوجودها الخارجي وإن كانت متأخّرة عن المعلول،إلاّ أنّها بوجودها الذهني متقدّمة عليه، ألا ترى أنّ الفوائد المترتّبة على البناءبوجودها في ذهن البنّاء متقدّمة على نفس البناء وداعية إليه، وإن كانتبوجودها الخارجي متأخّرة عنه.
والمحقّق صاحب الكفاية صرّح بأنّ تمايز العلوم إنّما هو بتمايز الأغراضالداعية إلى التدوين، والداعي إلى تدوين العلم إنّما هو الغرض بوجوده الذهنيلا الخارجي كما تخيّل المستشكل.
إشكال المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» على المحقّق الخراساني وجوابه
الثاني: أورد عليه بعض الأعلام بأنّ العلوم على قسمين:
1ـ ما له غرض عملي مترتّب عليه، كالنحو والصرف والفقه والاُصول،حيث إنّ من تعلّم النحو لا يقول في محاوراته: «جائني زيداً» بل يقول:«جائني زيد»، فله أثر عملي، ومن تعلّم الفقه واستنتج فيه وجوب صلاةالجمعة يذهب إلى المصلّى ويؤدّيها، فله أيضاً غرض خارجي، وهكذا.
2ـ ما ليس له غرض عملي، بل له أثر علمي فقط، كالفلسفة، حيثعرّفوها بالعلم الذي يوجب معرفة الحقائق والواقعيّات، والجغرافيا، فإنّه العلم
(صفحه48)
الذي يبحث فيه عن الكرة الأرضيّة، فيترتّب عليه معرفة جبالها، غاباتها،بحارها، وسائر أحوالها من حيث الكمّية والكيفيّة والوضع والأين. ولا يترتّبعلى هذين العلمين غرض خارجي.
ثمّ قال: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله صحيح بالنسبة إلى القسم الأوّلفقط، وأمّا القسم الثاني فلابدّ من القول بكون التمايز فيه إمّا بالذات أوبالموضوع، ولا ثالث لهما(1)، لعدم غرض خارجي له ما عدى العرفانوالإحاطة، ليكون التمييز بذلك الغرض الخارجي(2).
هذا حاصل إشكال المحقّق الخوئي على المحقّق الخراساني رحمهالله .
وفيه: أنّه لا فرق بين القسمين من العلوم عندنا، لأنّ لكلّ من العلوم سواءكان من القسم الأوّل أو الثاني غرضاً باعثاً على تدوينه مغايراً للغرض الداعيإلى تدوين العلم الآخر، فكما أنّ لعلم النحو غرضاً خارجيّاً، كذلك للجغرافيأيضاً غرض خارجي مغاير له، لكن واقعيّة كلّ شيء بحسبه، فواقعيّة العلم إنّمهي بكونه متحقّقاً في ظرفه، فإذا قلنا: «زيد عالم» وكان كذلك بحسب الواقع،فهل يمكن أن يقال: ليس له حقيقة وواقعيّة؟ أو يمكن أن يقال: ليس للوجودالذهني حقيقةٌ أصلاً؟ أو له أيضاً واقعيّة، كما أنّ الوجود الخارجي كذلك، لكنواقعيّة الأوّل إنّما هي بتحقّقه في الذهن، وواقعيّة الثاني بوجوده في الخارج.
فلو كان تمايز العلوم بتمايز الأغراض فلا فرق بين ما كان له غرض عمليوما ليس له إلاّ غرض علمي.
- (1) لابدّ من أن يكون هذا من قبيل الحصر الإضافي في مقابل الغرض، لأنّه«مدّ ظلّه» صرّح في صدر كلامهبأنّ التمايز إمّا بالذات أو بالموضوع أو بالمحمول، وكذا قال في ذيل كلامه: كما أنّه قد يمكن الامتيازبالمحمول. م ح ـ ى.
- (2) محاضرات في اُصول الفقه 1: 31.
ج1
الثالث: أنّ صحّة كون تمايز العلوم بتمايز الأغراض تبتني على أمرين:
أ ـ وحدة الغرض المترتّب على كلّ علم، إذ لو أمكن تعدّد الغرض فلا معنىلامتياز العلوم بالأغراض. ووحدة الغرض وإن كانت كالمتسالم عليه بينهم إلأنّه لا دليل عليها كما تقدّم في البحث عن دليل المشهور لإثبات وحدةالموضوع(1).
ب ـ أن لا يكون في المرتبة المتقدِّمة على الغرض وجه به يمتاز العلومبعضها عن بعض، وإلاّ حصل التمايز في تلك الرتبة ولا تصل النوبة إلىالغرض.
فتأمّل، كي يتّضح لك أنّه هل يوجد في الرتبة المتقدّمة على الغرض وجهالتمايز أم لا؟
3ـ نظريّة الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في ما به يتمايز العلوم
وذهب سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» إلى أنّ تمايز العلوم بالسنخيّةالذاتيّة المتحقّقة بين مسائلها، فإنّك عرفت(2) أنّ بين مسائل كلّ علم سنخيّةذاتيّة، ولا سنخيّة بين مسائل علمين.
ألا ترى أنّ قول النحاة: «كلّ فاعل مرفوع» يسانخ قولهم: «كلّ مفعولمنصوب»، ولا يسانخ قول الفقهاء: «الميتة محرّمة»؟
ولا يصحّ السؤال عن علّة هذا التناسخ، لأنّه ذاتي والذاتي لا يعلّل، فكما ليصحّ السؤال عن علّة كون الإنسان ناطقاً أو حيواناً، فكذلك لا يصحّ السؤالعن علّة وجود السنخيّة بين مسائل العلم.
(صفحه50)
وبالجملة: المسانخة بين مسائل كلّ علم توجب امتيازه عن سائر العلوم،ولا ترتبط هذه السنخيّة بالموضوعات، لأنّا أنكرنا افتقار العلم إلى الموضوع،ولا بالأغراض، ضرورة أنّا ندرك السنخيّة بين مسائل النحو مثلاً، ولو لم يكنله غرض أصلاً أو جهلنا بغرضه فرضاً، وهذا كاشف عن ارتباط السنخيّةبذوات المسائل لا بالغرض.
وتداخل علمين في بعض المسائل بأن تدخل مسألة في علمين لا يضرّ بمذكر(1)، لأنّ وجود السنخيّة بين مسألة اُصوليّة مثلاً وسائر مسائل علمالاُصول لا ينفي وجود السنخيّة بينها وبين مسائل علم آخر.
فقولنا: «الأمر يدلّ على الوجوب» مسألة اُصوليّة من طرف، ولغويّة منطرف آخر، لكونها مناسبةً ومسانخةً لمسائل كلا العلمين.
فمنشأ وحدة العلوم وكذلك منشأ تمايزها إنّما هو السنخيّة الذاتيّة المتحقّقةبين مسائل كلّ علم.
هذا حاصل ما ذهب إليه الإمام«مدّ ظلّه» في المقام(2).
لا يقال: السنخيّة ترتبط إمّا بموضوعات المسائل، أو بمحمولاتها، أوباشتراكها في الغرض المترتّب عليها الذي يعبّر عنه بغرض العلم(3)، لأنّمسائل العلوم مركّبة عن هذه الاُمور الثلاثة فقط.
فلابدّ من القول بأنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات كما ذهب إليه المشهور
- (1) وتداخل علمين لا يتّفق إلاّ في قليل من المسائل. منه مدّ ظلّه.
- (3) ففي علم النحو مثلاً تحقّقت السنخيّة بين الفاعل والمفعول والمضاف إليه على الأوّل، وبين المرفوعيّةوالمنصوبيّة والمجروريّة على الثاني، وترتبط بالغرض المترتّب عليه، وهو «صون اللسان عن الخطأ فيالمقال» على الثالث. م ح ـ ى.