(صفحه118)
النفوس الأوّليّة كيف كانوا عارفين بجميع اللغات المتداولة في هذا الزمان معتكثّرها جدّاً؟!
وثانياً: أنّ الوضع لو استند إلى اللّه تعالى لاستند تكثّر اللغات أيضاً إليه لمحالة، فأوحى بناءً على ما ذهب رحمهالله إليه كلّ لغة منها إلى نبيّ من أنبيائه، أوألهمها جمعاً من النفوس الأوّليّة، أو أودعها في فطرتهم(1)، وهم بلّغوها إلىسائرأفراد البشر، فأوحى اللغة العربيّة مثلاً إلى واحد من أنبيائه، وهو بلّغها إلىالعرب، واللغة الفارسيّة إلى نبيّ آخر وهو بلّغها إلى الفرس، وهكذا، وقسعلى هذا الإلهام والإيداع في الطباع.
وبالجملة: استناد الوضع إليه تعالى يستلزم استناد تكثّر اللغات أيضاً إليه،وتكثر اللّغات من حيث هو يغاير غرض الوضع الذي هو سهولة التفهيموالتفهّم، حيث إنّه يوجب حرمان أهل كلّ لغة من فهم سائر اللغات وثمراتهإلاّ بعد صرف الأوقات الطويلة وتحمّل المشاقّ في طريق تحصيل تلك اللغات،بخلاف ما إذا تكلّم جميع الناس بلغة واحدة في الأسواق والجامعاتوالحوزات العلميّة وغيرها، ودوّن بها جميع الكتب والجرائد والمجلاّتونحوها، وكان عليها مدار التكلّم في التلفاز والمذياع وشبههما، حيث يفهمحينئذٍ الكلّ كلام الكلّ بسهولة كما لا يخفى، فكيف نقول باستناد هذا الأمرالمغاير لغرض الوضع إلى اللّه سبحانه مستقيماً؟!
إن قلت: كيف يكون تكثّر اللغات مغايراً لغرض الوضع، مع أنّ اللّه تعالىعدّه من آياته حيث قال: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَاخْتِلاَفُ
- (1) وهنا طريق رابع ملفّق وإن لم يذكره المحقّق النائيني رحمهالله وهو أن يبلّغ بعضها من طريق الوحي، وبعضهالآخر من طريق الإلهام أو الإيداع في الفطرة والجبلّة. منه مدّ ظلّه.
ج1
أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ»(1)؟
قلت: كون شيء آية له تعالى لا يستلزم أن يكون نافعاً للإنسان أو مربوطبه تعالى مستقيماً، ألا ترى أنّ العصيان آية له سبحانه، حيث إنّ منشأ قدرةالعاصي هو قدرة اللّه الذي خلقه وأقدره على ارتكاب الطاعات والمعاصي، معأنّ العصيان لا ينفع الإنسان بل يضرّه ولا يرتبط به تعالى مستقيماً.
فاختلاف الألسنة وتكثّر اللغات مع كونه مغايراً لغرض الوضع يكون منآيات اللّه، لأنّه سبحانه أقدر الإنسان على جعل اللغات وتكثيرها(2).
فما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله من أنّ الواضع هو اللّه لا يتمّ.
بل التاريخ والوجدان يشهدان على أنّ الواضع هو البشر، وتكثّر اللغاتوكذا توسعته بيده، فإنّا نجد المخترعين وأرباب الصنائع مثلاً يضعون لمخترعهموصنعتهم لفظاً ويسمّونه به، ثمّ إذا وصل ذلك المخترع وتلك الصنعة إلى سائرالبلاد وضع له أهلها لفظاً آخر بلغتهم ويسمّونه به، وهكذا.
والإنسان كان كذلك في بدء نشأته أيضاً، فإنّه كلّما احتاج إلى تفهيممقاصده وانتقالها إلى الغير وضع لفظاً للمعنى المحتاج إليه ونقل به مراده إليه،فحينما صار عطشاناً وافتقر إلى ما يرتفع به عطشه أو جائعاً واحتاج إلى ميرتفع به جوعه وضع لفظ الماء والخبز لحقيقتهما الكلّيّة، وهكذا بالنسبة إلىسائر الألفاظ والمعاني.
إن قلت: لا يتمكّن الواضع من تفهيم أنّ لفظ كذا وضع لمعنى كذا، لأنّ
- (2) وأمّا اختلاف الألوان فهو وإن كان فعل اللّه سبحانه وخارجاً عن اختيار الإنسان، ولعلّ بعض الأفرادالسود مثلاً يحزنون به، إلاّ أنّه لغرض أهمّ، كما يشير إليه قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍوَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ» الحجرات: 13. م ح ـ ى.
(صفحه120)
المخاطب لايفهم كلامه بعدُ، كما تقدّم.
قلت: تفهيمه في المعاني الجزئيّة والأعلام الشخصيّة سهل، لأنّه يتمكّن منالإشارة إلى الموضوع له وإعلام أنّ اللفظ الفلاني وضع له، إنّما الإشكال فيالمفاهيم الكلّيّة، مثل حقيقة الماء، فإنّ لفظه وضع لمفهوم الماء لا لمصاديقهالخارجيّة، فلو أحضر الواضع كأساً من الماء، وقال: «وضعت لفظ الماء لهذا»لم يصحّ، إذ لم ينتقل ذهن السامع منه إلى المفهوم، لكن يمكن التفهيم في مثلهبطريق آخر، وهو أن يشير إلى ماء كأس ويقول: هذا ماء، ثمّ فعل كذلك بماءآخر، ثمّ بماء ثالث، وهكذا، فإنّ تكرار هذا العمل بالنسبة إلى مياه متعدّدةيكشف من أنّ لفظ الماء موضوع لمفهومه العامّ، وكلّ من المياه الخارجيّةمصداق له.
والحاصل: أنّ وضع الألفاظ للمعاني بيد البشر، لكنّ البشر الأوّلي لم يفتقرفي تفهيم مقاصده إلاّ إلى وضع ألفاظ معدودة قليلة واستعمالها، ثمّ ازدادالحاجة، فوضع سائر الناس ألفاظاً اُخرى لمعانٍ مستحدثة، وهكذا.
وأمّا تعدّد اللغات وتكثّرها فمنشأه التعصّبات القوميّة التي تحرّك القبائل إلىوضع لغة جديدة وعدم تكلّمهم بلغة سائر القبائل.
فوضع الألفاظ وتوسعة اللغات وتكثّرها كلّها بيد البشر، لكن لم تتحقّقبيد بشر واحد، بل اشترك فيها أفراد متعدّدة من الناس في طول الزمان، فكلّموجدوا معنىً جديداً وضعوا له لفظاً خاصّاً، فاتّسعت اللغات يوماً فيوماً.
ج1
(صفحه122)
في حقيقة الوضع
الجهة الثالثة: في حقيقة الوضع
اختلفوا فيها على أقوال:
1ـ نظريّة الآخوند صاحب الكفاية في المقام
قال المحقّق الخراساني رحمهالله : الوضع هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنىوارتباط خاصّ بينهما ناشٍ من تخصيصه به تارةً ومن كثرة استعماله فيهاُخرى(1).
والذي يدعوه إلى هذا التعريف للوضع تقسيمه إلى التعييني والتعيّني، فإنّهظاهر في كون كلّ منهما مصداقاً للوضع بمعناه الحقيقي، فلابدّ من تعريفه بما ذكركي يشتمل على قسميه، فإنّه لو اكتفى بقوله: «ناشٍ من تخصيصه به» ولميعطف عليه قوله: «ومن كثرة استعماله فيه اُخرى» لما عمّ الوضع التعيّني، لأنّهناشٍ عن كثرة الاستعمال، لا عن وضع واضع خاصّ يجعل اللفظ بإزاء المعنى،كما في الوضع التعييني.
فقوله بعد ذلك: «وبهذا المعنى صحّ تقسيمه إلى التعييني والتعيّني كما ليخفى» بمنزلة التعليل لما اختاره من التعريف.