ج1
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في حقيقة الوضع
ويرد عليه أوّلاً: أنّ هذا التعريف مجمل، فإنّ كلمة «نحو» في قوله: «نحواختصاص» يكون بمعنى النوع، فحاصل هذا التعريف أنّ الوضع نوع منالارتباط بين اللفظ والمعنى، ولا يخفى إبهامه، فإنّه بمنزلة أن يُقال في تعريفالإنسان: «هو نوع من الموجودات».
وثانياً: أنّ اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباطه به نتيجة الوضع لا نفسه،وبعبارة اُخرى: قد عرفت أنّه ليس بين اللفظ والمعنى ارتباط ذاتي، فلا محالةيكون هذا الارتباط الموجود بينهما لأجل سبب هو الوضع، وهذا الارتباطأثره.
وبعبارة أوضح: الوضع يكون بمعنى المصدر الذي هو عمل الواضع، لبمعنى اسم المصدر الذي هو نتيجة عمله، فالوضع هو تخصيص اللفظ بالمعنىوتعيينه للدلالة عليه، لا اختصاصه به.
وأمّا تقسيمه إلى التعييني والتعيّني فهو وإن كان ظاهراً في أنّ كلاًّ منهما منمصاديقه الحقيقيّة، إلاّ أنّه لابدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر بقرينة الإشكالالمذكور، والالتزام بأنّ المقسم في هذا التقسيم أعمّ من الحقيقة والمجاز، لأنّالوضع التعييني من مصاديقه الحقيقيّة، والتعيّني من مصاديقه المجازيّة(1).
إن قلت: إن كان استعمال الوضع في التعيّني مجازاً فكيف يقال: إذا كثراستعمال اللفظ في المعنى المجازي بحيث انتقل الذهن من اللفظ إليه من غيرقرينة، صار حقيقةً فيه؟
قلت: ليس كلّ معنى حقيقي موضوعاً له حقيقةً، بل المعنى الحقيقي الذي
- (1) سيأتي في ص143 إمكان كون الوضع التعيّني أيضاً من مصاديقه الحقيقيّة. م ح ـ ى.
(صفحه124)
يحصل بسبب التعيين موضوع له حقيقةً، والذي يحصل بسبب كثرة الاستعمالقهراً لا يكون موضوعاً له إلاّ مجازاً، مع كون كلّ منهما معنى حقيقيّاً للفظ.
2ـ قول آخر في حقيقة الوضع
نقل بعض الأعلام في المحاضرات عن بعض الأعاظم(1) أنّه ذهب إلى أنّحقيقة الوضع هي الملازمة الواقعيّة بين اللفظ والمعنى، لكنّها ليست من إحدىالمقولات الجوهريّة ولا العرضيّة.
أمّا الأوّل: فواضح، فإنّ الجوهر منحصر في خمسة أقسام: 1ـ العقل،2ـ النفس، 3ـ الصورة، 4ـ المادّة، 5ـ الجسم، وهي ليست من إحداها.
وأمّا الثاني: فلأنّ المقولات التسع العرضيّة متقوّمة بالغير في الخارج،لاستحالة تحقّقها في العين بدون موضوع توجد فيه، وهذا بخلاف حقيقة العلقةالوضعيّة، فإنّها ملازمة قائمة بطبيعي اللفظ والمعنى، فلا يتوقّف ثبوتها وتحقّقهعلى وجودهما في الخارج، وهذا واضح، ولذا يصحّ وضع اللفظ لمعنى معدومبل مستحيل، كما لو فرضنا وضع لفظ الدور والتسلسل لخصوص حصّةمستحيلة منه، لا للمعنى الجامع بينها وبين غيرها، فلو كانت حقيقتها منإحدى المقولات لاستحال تحقّقها بدون وجود اللفظ والمعنى الموضوع له.
وهذا نظير سائر الملازمات الثابتة في الواقع بين أمرين من الاُمورالتكوينيّة، كالملازمة بين زوجيّة العدد وانقسامه إلى متساويين، وبين فرديّتهوعدم انقسامه إليهما، فهذا القبيل من الملازمات مع كونها واقعيّة لا تكون منقبيل الجواهر، وهو واضح، ولا الأعراض، لأنّها لا تتوقّف على وجود طرفي
- (1) لم نفهم المراد ببعض الأعاظم في هذه العبارة. منه مدّ ظلّه.
ج1
الملازمة في الخارج، فليست من سنخ المقولات الجوهريّة ولا العرضيّة، كما أنّالملازمة بين تعدّد الآلهة وفساد السماوات والأرض المستفادة من قوله تعالى:«لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا»(1) أمر واقعي مع عدم دخولها تحت شيءمن المقولات.
ولا دليل على لزوم دخول جميع الواقعيّات تحت الجوهر أو العرض.
نعم، بين العلقة الوضعيّة وبين سائر الملازمات فرق، وهو أنّ الملازمةالواقعة في الأمثلة الثلاثة المذكورة وأمثالها ذاتيّة أزليّة، والملازمة الواقعة بيناللفظ والمعنى جعليّة اعتباريّة، لا بمعنى أنّ الجعل والاعتبار مقوّم لها حدوثوبقاءً، بل بمعنى أنّه علّة وسبب لحدوثها، وبعده تصير من الاُمور الواقعيّة،وكونها جعليّة بهذا المعنى لا ينافي تحقّقها وتقرّرها في لوح الواقع ونفس الأمر.
هذا ما نقله بعض الأعلام عن بعض الأعاظم.
وحاصله: أنّ الوضع عبارة عن الملازمة الواقعيّة بين اللفظ والمعنى، وليسمن الاُمور الاعتباريّة التي قوامها حدوثاً وبقاءً بيد المعتبر، كالملكيّة والزوجيّةوالحرّيّة والرقّيّة.
نقد كلام بعض الأعاظم في حقيقة الوضع
ثمّ أجاب عنه بقوله: والجواب عن ذلك: أنّه قدسسره إن أراد بوجود الملازمةبين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له وجودها مطلقاً حتّى للجاهلبالوضع فبطلانه من الواضحات التي لا تخفى على أحد، فإنّ هذا يستلزم أنيكون سماع اللفظ وتصوّره علّة تامّة لانتقال الذهن إلى معناه، ولازمه
(صفحه126)
استحالة الجهل باللغات مع أنّ إمكانه ووقوعه من أوضح البديهيّات، وإنأراد به ثبوتها للعالم بالوضع فقط دون غيره فيرد عليه أنّ الأمر وإن كانكذلك ـ يعني أنّ هذه الملازمة ثابتة له دون غيره ـ إلاّ أنّها ليست بحقيقةالوضع، بل هي متفرّعة عليها ومتأخّرة عنها رتبةً، ومحلّ كلامنا هنا في تعيينحقيقته التي تترتّب عليها الملازمة بين تصوّر اللفظ والانتقال إلى معناه(1)،إنتهى كلامه.
أقول: هذا الإشكال وإن تلقّيناه بالقبول في الدورة السابقة، لكنّ الحقّ أنّهمردود بأنّ مراد بعض الأعاظم ثبوت الملازمة بين اللفظ والمعنى واقعاً وفينفس الأمر، سواء علم الإنسان بها أم لا، فمن علم بها أدرك ذلك الأمرالواقعي، بخلاف من لم يعلمها، وجهله بها لا يضرّ ثبوتها واقعاً وفي نفسالأمر، كما أنّ الملازمة بين تعدّد الآلهة وفساد السماوات والأرض أمر واقعي،وإن لم يدركها الملاحدة والمشركون.
نعم، لابدّ من إصلاح كلام بعض الأعاظم بأنّ «حقيقة الوضع هي إيجادالملازمة الواقعيّة بين اللفظ والمعنى»، لأنّ الملازمة نتيجة الوضع وأثره لنفسه، كما حقّقناه عند الإيراد على المحقّق الخراساني رحمهالله (2).
ويرد عليه مضافاً إلى ذلك أنّ كون هذه الملازمة أمراً واقعيّاً بقاءًواعتباريّاً حدوثاً لا يتصوّر، فإنّ الاُمور الاعتباريّة اعتباريّة في الحدوثوالبقاء معاً(3).
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 45.
- (3) فإنّ الشارع في كلّ لحظة يعتبر الملكيّة والزوجيّة للمالك والزوجين ما لم يتحقّق مزيلهما، وكذا سائرالاعتباريّات والجعليّات. منه مدّ ظلّه.
ج1
3ـ نظريّة جماعة من الاُصوليّين في المقام
ذهب جمع من الاُصوليّين منهم صاحب منتهى الاُصول إلى أنّ الوضع إيجادالاتّحاد والهوهويّة الاعتباريّة(1) بين اللفظ والمعنى(2) وإن لم يتّحدا واقعاً، لكوناللفظ صوتاً ومن مقولة الكيف المسموع، والمعنى ربما يكون جوهراً، ولا يمكناتّحاد الجوهر مع العرض واقعاً، بخلاف الاتّحاد الاعتباري، فإنّه يمكن أنيتحقّق حتّى في مقولتين مختلفتين.
ولأجل هذا قد يعتبر الاتّحاد بين شيئين لا ربط بينهما واقعاً، كقوله صلىاللهعليهوآله :«الطواف بالبيت صلاة»(3) وقوله عليهالسلام في الفقّاع: «هي خمرة استصغرهالناس»(4).
والمراد بـ «الناس» هو العامّة.
- (1) الهوهويّة هي ملاك الحمل في القضايا الحمليّة، ولا يصحّ ما يقال من تحقّق النسبة فيها بين الموضوعوالمحمول، لأنّ ملاك الحمل هو الاتّحاد بينهما، وكيف يمكن تصوّر النسبة بين الشيء ونفسه؟! فالقولبتحقّقها بين الموضوع والمحمول غير معقول في القضايا الحمليّة المتداولة، نحو «زيد عالم».نعم، هي متحقّقة في مثل قولنا: «زيد له القيام» حيث إنّ زيداً غير القيام، ولا إشكال في تحقّق النسبة بينشيئين متغايرين.
ثمّ إنّ الهوهويّة الاعتباريّة في مقابل الحقيقيّة التي تتحقّق في جلّ القضايا الحمليّة نحو «زيد قائم» فإنّهحاكية عن الاتّحاد بين الموضوع والمحمول واقعاً، بخلاف الاعتباريّة التي تتحقّق بين اللفظ والمعنىبزعم هؤلاء الجماعة، إذ لا اتّحاد بينهما إلاّ في عالم الجعل والاعتبار. منه مدّ ظلّه.
(2) قال المحقّق البجنوردي في منتهى الاُصول 1: 32: والتحقيق في المقام أنّ الوضع عبارة عن الهوهويّةوالاتّحاد بين اللفظ والمعنى في عالم الاعتبار، فتعبير الاُستاذ«مدّ ظلّه» بـ «إيجاد الاتّحاد والهوهويّة» نوعإصلاح في عبارة البجنوردي رحمهالله ، حيث إنّ الوضع عبارة عن إيجاد الاتّحاد والهوهويّة لا نفسه كما ليخفى. م ح ـ ى.
- (3) جواهر الكلام 19: 270، عن سنن البيهقي 5: 87 ، وكنز العمّال 3: 10، الرقم 206.
- (4) وسائل الشيعة 25: 365، كتاب الأطعمة والأشربة، الباب 28 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.