(صفحه204)
متغايرين، إذ لا معنى لتحقّق النسبة في شيء واحد.
الثانية: أنّا وإن تصوّرنا للقضيّة ثلاث مراحل، إلاّ أنّ الأصالة للواقع، وأمّاللفظ والتعقّل فهما تابعان له، حيث إنّ اللفظ حاكٍ عن الواقع والسامع ينتقلمن طريق سماع اللفظ إليه، فالقضيّة الأصليّة هي القضيّة الواقعيّة.
إذا عرفت هذا فنقول:
لا يعقل تحقّق النسبة في القضايا الحمليّة أصلاً.
أمّا في الحمل الأوّلي الذاتي فواضح، فإنّا إذا قلنا: «الإنسان إنسان» يتّحدالموضوع والمحمول ماهيّة ومفهوماً ووجوداً، فلا مغايرة بينهما بوجه(1) حتّىيتحقّق النسبة والربط بينهما.
ودعوى أنّ المثال المذكور ونحوه لا يكون قضيّة إلاّ بحسب الظاهر، باطلة،لأنّه قضيّة واقعاً، بل من أصدق القضايا، وعلى تقدير تسليم هذه الدعوىفالمثال خارج عن البحث، لأنّ النزاع في القضايا الواقعيّة لا الصوريّة.
فبناءً على كون قولنا: «الإنسان إنسان» قضيّةً في الواقع، يتوجّه علىالمشهور إشكال عدم تحقّق النسبة فيها.
وكذا إذا قلنا: «الإنسان حيوان ناطق»(2) فإنّ الموضوع والمحمول فيه وإنكانا متغايرين مفهوماً، إلاّ أنّهما متّحدان ماهيّةً ووجوداً، فلا يعقل وجودالنسبة بينهما، لعدم التغاير بينهما في الواقعيّة المحكيّة التي هي المرحلة
- (1) وأمّا المغايرة الاعتباريّة المصحّحة للحمل فهي مجرّد اعتبار لا واقعيّة لها، فلا يتحقّق بها الربط الذييكون من الواقعيّات، على أنّ توقّف صحّة الحمل على اعتبار المغايرة لا أصل له، بل اعتبارها يورثالإشكال كما سيأتي تحقيقه في مبحث ملاك الحمل من مباحث المشتقّ ص485. م ح ـ ى.
- (2) هذا هو القسم الثاني من الحمل الأوّلي، أعني ما يتّحد فيه الموضوع مع المحمول ماهيّةً لا مفهوماً.م ح ـ ى.
ج1
الأصيلة للقضيّة.
وأمّا في الحمل الشايع بالذات، فلأنّ قولنا: «زيد إنسان» يكون بمعنى «زيدمصداق الإنسان» وليس لنا شيئان في الخارج أحدهما «زيد» والآخر«مصداق الإنسان» حتّى يتصوّر تحقّق النسبة والربط بينهما.
وأمّا الحمل الشايع بالعرض فتحقيقه أنّ زيداً إذا اتّصف بالقيام، فلا ريبفي أنّ لنا ثلاث واقعيّات متغايرة في الخارج: زيد والقيام واتّصاف زيد بالقيام.
هذا ممّا لا إشكال فيه، إلاّ أنّا تارةً نحكي عن هذه الواقعيّات بـ «زيد قائم»واُخرى بـ «زيد له القيام».
ولا يصحّ القول بتحقّق النسبة في القضيّة الاُولى، لأنّ القيام وإن كان مغايرلزيد، إلاّ أنّ المحمول في هذه القضيّة لفظ «القائم» الذي هو عبارة عن ذاتثبت له القيام، ولا ريب في أنّه متّحد في الخارج مع زيد.
وبالجملة: الذي يحتاج إلى النسبة والربط، هو «القيام» الذي لم يحمل علىزيد، والذي حمل عليه، هو «القائم» الذي لا يعقل فيه تحقّق النسبة.
وأمّا القضيّة الثانية أعني «زيد له القيام» ونظائرها، نحو «زيد في الدار»و«زيد على السطح» وسائر ما استعمل فيه الحرف بهذا النحو، فقد يتخيّلفيها تحقّق النسبة بين الموضوع والمحمول، لكنّ الواقع خلافه.
لأنّا إن قلنا بمقالة النحويّين من كونها مأوّلة، وتقديرها «زيد ثابت لهالقيام» و«زيد كائن في الدار» و«زيد مستقرّ على السطح» فلا فرق بينها وبينمثل «زيد قائم» في اتّحاد الموضوع والمحمول واقعاً.
وإن لم نقل بها، بل قلنا بكون المحمول نفس «له القيام» و«في الدار» و«علىالسطح» من غير تقدير، فالنسبة مربوطة بالحرف المستعمل في القضيّة، لا بها،والشاهد على هذا أمران: أحدهما: أنّا إن جعلناه مركّباً ناقصاً وقلنا مكان
(صفحه206)
«الجسم له البياض» و«زيد في الدار»: «الجسم الذي له البياض» و«زيد الذيفي الدار» كانت النسبة باقية مع عدم بقاء القضيّة، الثاني: أنّ النسبة في مثلهذه القضايا بين الموضوع وجزء من المحمول، لا بينه وبين نفس المحمول، فإنّالارتباط واقع بين زيد والدار مثلاً مع أنّ المحمول مجموع «في الدار» من الجارّوالمجرور، ولا نسبة بين هذا المجموع وبين زيد. فالذي بينه وبين الموضوع ربطليس بمحمول، والذي هو المحمول ليس بينه وبين الموضوع نسبة وربط، وهذيكشف عن عدم كون النسبة لأجل القضيّة.
فتبيّن أنّه ليس لنا في القضايا الموجبة قضيّة مركّبة من ثلاثة أجزاء؛ لعدمتعقّل النسبة فيها.
وأمّا السوالب فظاهر كلام المشهور يعمّها، فهي أيضاً عندهم مركّبة منالموضوع والمحمول ونسبة السلب، وفساده أظهر من الموجبات؛ لأنّ السلبليس بشيء حتّى تتحقّق النسبة بينه وبين شيء آخر وجودي، وإن كانالمسلوب أمراً موجوداً في الخارج، كما في مثل «زيد ليس في الدار» وأمّا إذا لميكن المسلوب موجوداً مثل «زيد ليس بقائم» فيرد عليه إشكال آخر أيضاً،وهو أنّ زيداً إذا لم يكن قائماً فليس لنا سوى زيد شيء آخر لكي يتحقّقالنسبة السلبيّة بينه وبين زيد.
وبعبارة اُخرى: إذا قلنا: «زيد ليس في الدار» فكلّ من «زيد» و«الدار»وإن كانا موجودين في الخارج، إلاّ أنّ السلب أمر عدمي لا تتحقّق النسبة بينهوبين شيء آخر، وإذا قلنا: «زيد ليس بقائم» فيرد عليه مضافاً إلى كونالسلب عدميّاً أنّه ليس في الخارج قيام كي تتحقّق نسبة سلبه إلى زيد.
نعم، لو قلنا بأنّ مرادهم من «نسبة السلب» سلب النسبة ـ وإن كان خلافظاهره ـ فهو صحيح في مثل «زيد في الدار» فقط، فإنّ كلاًّ من «زيد»
ج1
و«الدار» موجودان، وليس بينهما نسبة.
والحاصل: أنّ القول بتركّب القضايا الحمليّة من ثلاثة أجزاء خلاف الواقع،لعدم تحقّق النسبة لا في الموجبات ولا في السوالب أصلاً.
وبهذا ظهر فساد قول المنطقيّين: «العلم إن كان إذعاناً للنسبة فتصديق وإلفتصوّر» وقول أهل البلاغة في تعريف الصدق: «الصدق في القضايا أن يكونلنسبتها واقع تطابقه».
لا يقال: كلامكم يقتضي خلوّ القضيّة المحكيّة عن النسبة، ولعلّ مرادالمشهور أنّ القضيّة اللفظيّة والمعقولة مركّبة من ثلاثة أجزاء.
فإنّه يقال: الأصل كما عرفت هو القضيّة الواقعيّة المحكيّة، وأمّا اللفظيّةالحاكية وكذا المعقولة فهما تابعتان للواقع، فإذا كان الواقع خالياً عن النسبةكانت القضيّة اللفظيّة أيضاً خالية عنها، وإلاّ فلم تكن مطابقة للواقع ومرآةً له،فلم تكن صادقة، والقضيّة المعقولة أيضاً لابدّ من أن تكون مطابقة للواقع،لأنّها صورته المرتسمة في ذهن المخاطب عند سماع القضيّة اللفظيّة.
ملاك الحمل في القضاي
إن قلت: لو كانت القضايا الحمليّة خالية عن النسبة، فما ملاك الحمل فيها؟
قلت: ملاك الحمل هو الاتّحاد والهوهويّة كما قال المحقّق الخراساني رحمهالله فيمبحث المشتقّ(1).
وأكمل مراتب الهوهويّة هو الاتّحاد في المراحل الثلاث، أعني في المفهوموالماهيّة والوجود الخارجي، كما في قولنا: «الإنسان إنسان» وأوسطها هو
- (1) وكلامه هذا وإن كان حقّاً، إلاّ أنّه مغاير لما اختاره في مبحث إطلاق اللفظ وإرادة نوعه، من تركّب القضيّةمن ثلاثة أجزاء كما قال به المشهور. منه مدّ ظلّه.
(صفحه208)
الاتّحاد في الماهيّة والوجود، كما في قولنا: «الإنسان حيوان ناطق» وأضعفههو الاتّحاد في الوجود فقط، كما في الحمل الشائع الصناعي بقسميه، مثل«البياض أبيض» و«الجسم أبيض».
نعم، يمكن الإشكال في تحقّق الاتّحاد في مثل «الجسم له البياض» و«زيد فيالدار» من الحمليّات بالحمل الشايع بالعرض، لكنّ الحقّ كما قال النحويّونأنّها مأوّلة بتقدير «كائن» و«ثابت» ونحوهما، فالاتّحاد بين الموضوع وما هوالمحمول واقعاً، ثابت، وإن لم يتحقّق الاتّحاد بينه وبين ما هو المحمول بحسبالظاهر.
هذا في القضايا الموجبة.
وأمّا في السوالب ـ وهي التي يكون الملاك فيها نفي الهوهويّة والاتّحاد فلابدّ من ملاحظة نفي الاتّحاد الذي لوحظ ثبوته في موجباتها.
ففي الحمليّات بالحمل الشايع مثل «زيد ليس بقائم» لابدّ من لحاظ نفيالهوهويّة بحسب الوجود(1) لأنّ الهوهويّة في موجباتها كانت بملاكه(2).
وفي مثل «الإنسان ليس بحيوان ناهق» لابدّ من لحاظ نفي الاتّحاد بحسبالماهيّة(3)، لأنّ الاتّحاد في ما يسانخها من الموجبات مثل «الإنسان حيوانناطق» يكون بحسبها.
- (1) والموضوع والمحمول في مثله وإن لم يكونا متّحدين بحسب الماهيّة والمفهوم أيضاً، إلاّ أنّ نفيالاتّحاد بملاكهما لم يكن ملحوظاً. م ح ـ ى.
- (2) فقضيّة «زيد إنسان» صادقة بالحمل الشايع الذي ملاكه الاتّحاد بحسب الوجود، وكاذبة بالحمل الأوّليالذي ملاكه الاتّحاد بحسب الماهيّة، لأنّ ماهيّة «زيد» غير ماهيّة «الإنسان». بخلاف قضيّة «زيد ليسبإنسان» فإنّها صادقة بملاك نفي الحمل الأوّلي، وكاذبة بملاك نفي الحمل الشايع كما لا يخفى. م ح ـ ى.
- (3) وأمّا نفي الاتّحاد بحسب المفهوم والوجود فليس بملحوظ. م ح ـ ى.