المحمول، لما تقدّم، فلا نحتاج إلى عكس المسألة لأجل انطباق طبيعة «الحجّةفي الفقه» على موضوعها.
والحاصل: أنّ موضوع علم الاُصول هو الجامع بين موضوعات مسائلهالذي يقال له: «الحجّة في الفقه» من دون أن نحتاج إلى عكس الحمل، على أنّالقول بعكس جميع مسائل الاُصول أمر مشكل.
في تعريف علم الاُصول
المقام الرابع: في تعريف علم الاُصول
اختلفوا فيه على أقوال:
1ـ نظريّة المشهور حول تعريف علم الاُصول
عرّفه المشهور بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة.
أقول: أخذ العلم في تعريف العلوم لا يصحّ، لأنّ كلّ علم عبارة عنمجموعة مسائله، سواء تُعلّمت أو لم تتعلّم أصلاً.
فعلم النحو مثلاً عبارة عن «كلّ فاعل مرفوع، كلّ مفعول منصوب، كلّمضاف إليهمجرور» وهكذا، ولادخل للعلم بهذهالمسائل والقواعد فيعلمالنحو.
فالحقّ تعريفه على مذاق المشهور بأنّه «القواعد الممهّدة لاستنباط الأحكامالشرعيّة».
وخرج بقيد «الممهّدة» العلوم التي لها دور في استنباط الأحكام، لكنّها لمتدوّن لهذا الغرض، كأدبيّات العرب واللغة وتفسير القرآن.
نقد كلام المشهور في المقام
وأورد المحقّق الخراساني رحمهالله على هذا التعريف بأنّه ليس جامعاً للأفرادلوجهين:
ج1
أحدهما: أنّه لا يشمل مسألة حجّيّة الظنّ على الحكومة.
الثاني: أنّه لا يشمل مسائل الاُصول العمليّة في الشبهات الحكميّة، مع أنّهذه المباحث من المهمّات كيفاً وكثيرة كمّاً، فإنّها ثلث مباحث علم الاُصول بلأزيد، فلا يمكن الالتزام بخروجها منه والاستطراد في ذكرها فيه(1).
توضيح الإشكال الأوّل: أنّه لو تمّت مقدّمات دليل الانسداد لدلّت علىحجّيّة الظنّ المطلق، واختلف في أنّ نتيجتها هل هي الحجّيّة بنحو الكشف أوالحكومة، والمراد بالكشف أنّ دليل الانسداد وإن كان دليلاً عقليّاً إلاّ أنّهكاشف عن حجّة شرعيّة على حجّيّة الظنّ، وبالحكومة أنّه بعد تماميّة مقدّماتالانسداد يحكم العقل نفسه بحجّيّته من دون أن يكون كاشفاً عن حجّةشرعيّة.
فالظنّ حجّة عقليّة على الحكومة، وشرعيّة على الكشف.
إن قلت: الحكم بخروج الظنّ الانسدادي على الحكومة عن تعريفالمشهور بملاك كون حجّيّته عقليّة يستلزم خروج القطع أيضاً، لأنّ الحاكمبحجّيّته أيضاً هو العقل.
قلت: ليس الحكم بالخروج لأجل عقليّته بل لأجل ظنّيّته، إذ الظاهر أنّالمراد بالاستنباط في هذا التعريف هو الاستنباط القطعي، فيشمل استنباطالأحكام بالقطع وإن كان دليلاً عقليّاً، ولا يشمل استنباطها بالظنّ المطلق إذقلنا بحجّيّته بنحو الحكومة، لأنّه استنباط ظنّي.
إن قلت: الاستنباط بالحجج والأمارات الشرعيّة أيضاً ظنّي، فيلزمخروجها أيضاً عن التعريف.
(صفحه88)
قلت: إنّ المشهور قائل بأنّ الشارع يجعل حكماً ظاهريّاً على طبق مؤدّىالأمارات الشرعيّة، وإن كانت مخالفة للواقع، فإذا قام خبر الواحد مثلاً علىوجوب صلاة الجمعة قطعنا ـ على قول المشهور ـ بوجوبها الظاهري،والأحكام في التعريف أعمّ من الواقعيّة والظاهريّة، فيشمل القطع، للقطعبالحكم الواقعي المستنبط به، والحجج الشرعيّة التي منها الظنّ الانسدادي بناءًعلى الكشف، للقطع بالحكم الظاهري المجعول على طبقها، دون الظنّالانسدادي على الحكومة، فإنّه حجّة عقليّة ظنّيّة، فلا علم لنا بالحكم الواقعيالمستنبط بها كما هو واضح، ولا جعل الشارع حكماً ظاهريّاً على طبقه،لاختصاصه عند القائلين به بالحجج الشرعيّة.
ويمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ دعوى عدم شمول الاستنباط فيالتعريف للاستنباط الظنّي مجازفة، إذ يمكن أن يكون مرادهم أعمّ من القطعيوالظنّي.
وتوضيح الإشكال الثاني يحتاج إلى مقدّمة:
وهي أنّ جمعاً من الاُصوليّين منهم الشيخ الأعظم الأنصاري والمحقّقالخراساني رحمهماالله قالوا بأنّ مسائل الاُصول العمليّة الجارية في الشبهاتالحكميّة(1) داخلة في علم الاُصول، وأمّا الجارية في الشبهات الموضوعيّة(2)فهي من القواعد الفقهيّة، كقاعدة نفي الضرر والحرج.
وقالوا في توجيه الفرق بينهما: إنّ المجتهد إنّما يفتي بالحكم الكلّي من مثل
- (1) كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة، وأصالة الحلّيّة في شرب التتن عند الشكّ في حرمته وحلّيّته،وأصالة البراءة عن الدُّعاء عند رؤية الهلال إذا شكّ في وجوبه. م ح ـ ى.
- (2) كاستصحاب نجاسة الثوب الخاصّ، وأصالة الحلّيّة في المائع المردّد بين الخمر والماء، وأصالة الطهارةفي الماء المشكوك طهارته ونجاسته. م ح ـ ى.
ج1
جريان الاستصحاب في الموارد المشكوكة التي لها حالة سابقة، وأصالةالطهارة والحلّيّة في الأشياء المشكوكة طهارتها ونجاستها أو حلّيّتها وحرمتها،وأمّا إجراء هذه الاُصول المفتى بها في مواردها الجزئيّة فهو وظيفة المقلّد، لأنّهالشاكّ فيها، بخلاف ما يجري في الحكم الكلّي، فإنّ المجتهد هو الذي يشكّ فيهبعد الفحص واليأس عن الدليل، فإجراء الاُصول فيه من وظائفه لا منوظائف المقلّد، وهذا من خواصّ المسألة الاُصوليّة.
هذه مقالة جمع كثير من الاُصوليّين منهم الشيخ الأنصاري والمحقّقالخراساني رحمهماالله ، وللبحث عن صحّته وفساده محلّ آخر.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ بعض تلامذة صاحب الكفاية قال في توضيحالإشكال:
إنّ الاستنباط لا يصدق إلاّ فيما إذا كان لنا أمران متغايران: أحدهما هوالمستنبط، والآخر هو المستنبط منه، كما إذا قام خبر الواحد مثلاً على وجوبصلاة الجمعة نقول: استنبطنا وجوبها من خبر الواحد، فكلمة الاستنباط فيالتعريف تدلّ على أنّ القواعد الممهّدة غير الأحكام الشرعيّة المستنبطة منها،مع أنّ إجراء الاُصول العمليّة لإثبات الأحكام الكلّيّة أو نفيها ليس كذلك،لأنّا إذا تمسّكنا لوجوب صلاة الجمعة بقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» مثلفهذا من قبيل تطبيق الكلّي على المصداق، ولا يسمّى هذا استنباطاً، ألا ترىأنّ المولى إذا قال: «أكرم كلّ عالم» لا يصحّ أن يقول العبد: إنّي استنبطتوجوب إكرام زيد العالم من كلام المولى.
فعلى هذا تعريف المشهور المشتمل على كلمة الاستنباط لا يشمل مسائلالاُصول العمليّة في الشبهات الحكميّة مع كونها من مهمّات الاُصول.