ذهب إلى الأوّل أكثر علماء العامّة والمحقّق النائيني رحمهالله من الإماميّة.
واستدلّوا عليه باُمور بعضها يثبت ـ على فرض تماميّته ـ أنّ اللّه تعالى هوالواضع، والبعض الآخر بصدد نفي واضعيّة البشر الذي يستنتج منه واضعيّةاللّه سبحانه وتعالى:
فإنّ تعليم الأسماء متأخّر عن وضعها، فلا محالة تدلّ الآية على أنّ اللّهسبحانه وضع جميع الأسماء لمسمّياتها قبل آدم الذي هو أوّل بشر ثمّ علّمهإيّاه.
هذا المائع السيّال اسمه الماء، وهذا الذي فوق رؤوسنا اسمه السماء، وهكذا.
وفي تحقيق معنى الآية أقوال مختلفة للمفسِّرين، سيّما العلاّمة الطباطبائي رحمهالله ،فإنّ له دقّةً قيّمة حول معنى الآية في تفسير الميزان.
ومنها: قوله تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَاخْتِلاَفُأَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ»(1) فإنّ كون اختلاف الألسنة آيةً له تعالى متوقّف علىارتباطه به لا بالبشر، ويؤيّده عطف الألوان على الألسنة، إذ لا ريب في أنّاختلافها بيده تعالى، فكذلك اختلاف الألسنة.
وفيه: أنّ وضع اللغات المختلفة آية له تعالى ولو كان الواضع هو الإنسان،لأنّ قدرته على الوضع لا يكون إلاّ من عند اللّه سبحانه، بل ليس الإنسان إلالربط المحض به تعالى، فصنعه آية له.
الثاني: ما في كلام المحقّق النائيني رحمهالله من أنّ البشر لو كان واضعاً لنقل فيالتاريخ، فإنّ المؤرِّخين الذين نقلوا في كتبهم الحوادث القليل الفائدة كيف يمكنأن يغفلوا عن هذه المسألة المهمّة التي عليها مدار التفهيم والتفهّم بسهولةويتوفّر الدواعي على نقلها؟!
فعدم النقل دليل على عدم كون الإنسان واضعاً، فلا محالة هو اللّه تعالى.
الثالث: ما في كلامه أيضاً، من أنّ الألفاظ غير متناهية، وكذلك المعاني(2)،
- (2) أمّا عدم تناهي الألفاظ فلأنّها تتركّب من الحروف، وكلّما تصوّرت من تركيبها تتمكّن من تصوّر مركّبآخر كما لا يخفى.
وأمّا عدم تناهي المعاني، فلأنّها لا تنحصر في المعاني الممكنة، بل تعمّ دائرة وضع الألفاظ الواجباتوالممتنعات أيضاً، كما نقول مثلاً: «شريك الباري، أو الجمع بين الضدّين أو النقيضين محال» فلفظ«محال» وضع للمعنى الذي يمتنع وجوده، فالمعاني التي تكون تحت دائرة الوضع لا تنحصر فيالممكن كي يقال: كيف يمكن عدم تناهيه، بل تعمّ الواجب والممتنع، وكذلك الموجود والمعدوم، ولريب في أنّ مجموع هذه المعاني، أعني المعاني المربوطة بالموجود والمعدوم والواجب والممكنوالممتنع غير متناهية. منه مدّ ظلّه.
(صفحه116)
فكيف يمكن إحاطة البشر الذي هو محدود وقدرته متناهية بهما حتّى يتحقّقبيده الوضع؟!
مع أنّه لو سلّم إمكان ذلك يبعّده أمران:
أ ـ أنّ تبليغ الوضع إلى عامّة البشر إمّا أن يكون دفعةً أو تدريجاً، والأوّلمحال عادةً، لبُعد بعض الأمكنة عن بعض، والثاني وإن كان ممكناً إلاّ أنّه لينفع، لأنّ الحاجة إلى تأدية المقاصد بالألفاظ تكون ضروريّة للبشر علىوجه يتوقّف عليها حفظ نظامهم، فيسأل عن كيفيّة تأدية مقاصدهم قبلوصول الوضع إليهم.
ب ـ أنّ الواضع لو كان هو البشر مثل يعرب بن قحطان، كما قيل، فنفسهذا الواضع كيف يُعلِم الناس حين الوضع أنّ اللفظ الفلاني وضعه للمعنىالفلاني، مع أنّه لم يمكن التفهيم والتفهّم بعدُ؟
توضيح ذلك: أنّه يحتاج حين الوضع إلى أن يقول: «أيّها الناس وضعتلفظ كذا بإزاء معنى كذا» مع أنّهم لا يفهمون معاني هذه الألفاظ بعدُ، ولوأغمضنا عن هذا وقلنا بإمكان قيام الإيماء والإشارة مقام هذه الألفاظ بأنيشير إلى ولده مثلاً ويقول: «زيد» من دون أن يحتاج إلى لفظي «أيّها الناس»و«وضعت» فهو وإن أمكن بالنسبة إلى المعاني الجزئيّة، إلاّ أنّه لا يمكن فيالمفاهيم الكلّيّة، كالماء والنار والحجر والشجر، فإنّ الواضع لو أحضر كأسوأشار إلى المائع الذي فيها وقال: «الماء» لما أفهم المقصود، لأنّه لا يريد وضعهذه اللفظة له، بل للماء الكلّي الذي ما في الكأس أحد مصاديقه فقط.
ج1
فلابدّ حينئذٍ من انتهاء الوضع إلى اللّه تعالى، الذي هو على كلّ شيء قدير،وبه محيط.
ولكن ليس وضعه تعالى للألفاظ كوضعه الأحكام لمتعلّقاتها وضعتشريعيّاً، ولا كوضعه الكائنات وضعاً تكوينيّاً، بل المراد من كونه تعالى هوالواضع أنّ حكمته البالغة لمّا اقتضت تكلّم البشر بإبراز مقاصدهم بالألفاظفلابدّ من انتهاء كشف الألفاظ لمعانيها إليه تعالى شأنه بوجه، إمّا بوحي منهإلى نبيّ من أنبيائه، أو بإلهام منه إلى البشر، أو بإيداع ذلك في طباعهم، بحيثصاروا يتكلّمون ويبرزون المقاصد بالألفاظ بحسب فطرتهم حسب ما أودعهاللّه في طباعهم(1).
فحاصل كلامه رحمهالله : أنّ الواضع هو اللّه سبحانه، وتبليغه إلى البشر إمّبالوحي، أو الإلهام، أو الإيداع في الفطرة والطبيعة.
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله حول واضع الألفاظ
ويرد عليه أوّلاً: أنّ تحقّق الوضع بيد اللّه تعالى وإبلاغه إلى البشر بواسطةالوحي أيضاً مسألة مهمّة، بل أهمّ من تحقّقه بيد الإنسان، فلابدّ من ذكره فيكتب التواريخ، بل في الكتب السماويّة أيضاً، فعدم ذكره فيهما دليل على عدمه.
وأمّا الإلهام والفطرة، فإن اُريد بهما أنّ اللّه تعالى يلهم ذلك إلى جميع الناس،ويكون ذلك في فطرة جميعهم، كما هو ظاهر كلامه، فهو ممنوع، لأنّه يستلزم أنيكون كلّ إنسان عارفاً بكلّ لغة، وليس كذلك، وإن اُريد أنّ النفوس الأوّليّةكانوا كذلك، وتعلّم سائر الناس معاني الألفاظ ووضعها لها منهم، ففيه أنّ
- (1) فوائد الاُصول 1 و 2: 30، وأجود التقريرات 1: 19.