(صفحه116)
فكيف يمكن إحاطة البشر الذي هو محدود وقدرته متناهية بهما حتّى يتحقّقبيده الوضع؟!
مع أنّه لو سلّم إمكان ذلك يبعّده أمران:
أ ـ أنّ تبليغ الوضع إلى عامّة البشر إمّا أن يكون دفعةً أو تدريجاً، والأوّلمحال عادةً، لبُعد بعض الأمكنة عن بعض، والثاني وإن كان ممكناً إلاّ أنّه لينفع، لأنّ الحاجة إلى تأدية المقاصد بالألفاظ تكون ضروريّة للبشر علىوجه يتوقّف عليها حفظ نظامهم، فيسأل عن كيفيّة تأدية مقاصدهم قبلوصول الوضع إليهم.
ب ـ أنّ الواضع لو كان هو البشر مثل يعرب بن قحطان، كما قيل، فنفسهذا الواضع كيف يُعلِم الناس حين الوضع أنّ اللفظ الفلاني وضعه للمعنىالفلاني، مع أنّه لم يمكن التفهيم والتفهّم بعدُ؟
توضيح ذلك: أنّه يحتاج حين الوضع إلى أن يقول: «أيّها الناس وضعتلفظ كذا بإزاء معنى كذا» مع أنّهم لا يفهمون معاني هذه الألفاظ بعدُ، ولوأغمضنا عن هذا وقلنا بإمكان قيام الإيماء والإشارة مقام هذه الألفاظ بأنيشير إلى ولده مثلاً ويقول: «زيد» من دون أن يحتاج إلى لفظي «أيّها الناس»و«وضعت» فهو وإن أمكن بالنسبة إلى المعاني الجزئيّة، إلاّ أنّه لا يمكن فيالمفاهيم الكلّيّة، كالماء والنار والحجر والشجر، فإنّ الواضع لو أحضر كأسوأشار إلى المائع الذي فيها وقال: «الماء» لما أفهم المقصود، لأنّه لا يريد وضعهذه اللفظة له، بل للماء الكلّي الذي ما في الكأس أحد مصاديقه فقط.
ج1
فلابدّ حينئذٍ من انتهاء الوضع إلى اللّه تعالى، الذي هو على كلّ شيء قدير،وبه محيط.
ولكن ليس وضعه تعالى للألفاظ كوضعه الأحكام لمتعلّقاتها وضعتشريعيّاً، ولا كوضعه الكائنات وضعاً تكوينيّاً، بل المراد من كونه تعالى هوالواضع أنّ حكمته البالغة لمّا اقتضت تكلّم البشر بإبراز مقاصدهم بالألفاظفلابدّ من انتهاء كشف الألفاظ لمعانيها إليه تعالى شأنه بوجه، إمّا بوحي منهإلى نبيّ من أنبيائه، أو بإلهام منه إلى البشر، أو بإيداع ذلك في طباعهم، بحيثصاروا يتكلّمون ويبرزون المقاصد بالألفاظ بحسب فطرتهم حسب ما أودعهاللّه في طباعهم(1).
فحاصل كلامه رحمهالله : أنّ الواضع هو اللّه سبحانه، وتبليغه إلى البشر إمّبالوحي، أو الإلهام، أو الإيداع في الفطرة والطبيعة.
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله حول واضع الألفاظ
ويرد عليه أوّلاً: أنّ تحقّق الوضع بيد اللّه تعالى وإبلاغه إلى البشر بواسطةالوحي أيضاً مسألة مهمّة، بل أهمّ من تحقّقه بيد الإنسان، فلابدّ من ذكره فيكتب التواريخ، بل في الكتب السماويّة أيضاً، فعدم ذكره فيهما دليل على عدمه.
وأمّا الإلهام والفطرة، فإن اُريد بهما أنّ اللّه تعالى يلهم ذلك إلى جميع الناس،ويكون ذلك في فطرة جميعهم، كما هو ظاهر كلامه، فهو ممنوع، لأنّه يستلزم أنيكون كلّ إنسان عارفاً بكلّ لغة، وليس كذلك، وإن اُريد أنّ النفوس الأوّليّةكانوا كذلك، وتعلّم سائر الناس معاني الألفاظ ووضعها لها منهم، ففيه أنّ
- (1) فوائد الاُصول 1 و 2: 30، وأجود التقريرات 1: 19.
(صفحه118)
النفوس الأوّليّة كيف كانوا عارفين بجميع اللغات المتداولة في هذا الزمان معتكثّرها جدّاً؟!
وثانياً: أنّ الوضع لو استند إلى اللّه تعالى لاستند تكثّر اللغات أيضاً إليه لمحالة، فأوحى بناءً على ما ذهب رحمهالله إليه كلّ لغة منها إلى نبيّ من أنبيائه، أوألهمها جمعاً من النفوس الأوّليّة، أو أودعها في فطرتهم(1)، وهم بلّغوها إلىسائرأفراد البشر، فأوحى اللغة العربيّة مثلاً إلى واحد من أنبيائه، وهو بلّغها إلىالعرب، واللغة الفارسيّة إلى نبيّ آخر وهو بلّغها إلى الفرس، وهكذا، وقسعلى هذا الإلهام والإيداع في الطباع.
وبالجملة: استناد الوضع إليه تعالى يستلزم استناد تكثّر اللغات أيضاً إليه،وتكثر اللّغات من حيث هو يغاير غرض الوضع الذي هو سهولة التفهيموالتفهّم، حيث إنّه يوجب حرمان أهل كلّ لغة من فهم سائر اللغات وثمراتهإلاّ بعد صرف الأوقات الطويلة وتحمّل المشاقّ في طريق تحصيل تلك اللغات،بخلاف ما إذا تكلّم جميع الناس بلغة واحدة في الأسواق والجامعاتوالحوزات العلميّة وغيرها، ودوّن بها جميع الكتب والجرائد والمجلاّتونحوها، وكان عليها مدار التكلّم في التلفاز والمذياع وشبههما، حيث يفهمحينئذٍ الكلّ كلام الكلّ بسهولة كما لا يخفى، فكيف نقول باستناد هذا الأمرالمغاير لغرض الوضع إلى اللّه سبحانه مستقيماً؟!
إن قلت: كيف يكون تكثّر اللغات مغايراً لغرض الوضع، مع أنّ اللّه تعالىعدّه من آياته حيث قال: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَاخْتِلاَفُ
- (1) وهنا طريق رابع ملفّق وإن لم يذكره المحقّق النائيني رحمهالله وهو أن يبلّغ بعضها من طريق الوحي، وبعضهالآخر من طريق الإلهام أو الإيداع في الفطرة والجبلّة. منه مدّ ظلّه.
ج1
أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ»(1)؟
قلت: كون شيء آية له تعالى لا يستلزم أن يكون نافعاً للإنسان أو مربوطبه تعالى مستقيماً، ألا ترى أنّ العصيان آية له سبحانه، حيث إنّ منشأ قدرةالعاصي هو قدرة اللّه الذي خلقه وأقدره على ارتكاب الطاعات والمعاصي، معأنّ العصيان لا ينفع الإنسان بل يضرّه ولا يرتبط به تعالى مستقيماً.
فاختلاف الألسنة وتكثّر اللغات مع كونه مغايراً لغرض الوضع يكون منآيات اللّه، لأنّه سبحانه أقدر الإنسان على جعل اللغات وتكثيرها(2).
فما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله من أنّ الواضع هو اللّه لا يتمّ.
بل التاريخ والوجدان يشهدان على أنّ الواضع هو البشر، وتكثّر اللغاتوكذا توسعته بيده، فإنّا نجد المخترعين وأرباب الصنائع مثلاً يضعون لمخترعهموصنعتهم لفظاً ويسمّونه به، ثمّ إذا وصل ذلك المخترع وتلك الصنعة إلى سائرالبلاد وضع له أهلها لفظاً آخر بلغتهم ويسمّونه به، وهكذا.
والإنسان كان كذلك في بدء نشأته أيضاً، فإنّه كلّما احتاج إلى تفهيممقاصده وانتقالها إلى الغير وضع لفظاً للمعنى المحتاج إليه ونقل به مراده إليه،فحينما صار عطشاناً وافتقر إلى ما يرتفع به عطشه أو جائعاً واحتاج إلى ميرتفع به جوعه وضع لفظ الماء والخبز لحقيقتهما الكلّيّة، وهكذا بالنسبة إلىسائر الألفاظ والمعاني.
إن قلت: لا يتمكّن الواضع من تفهيم أنّ لفظ كذا وضع لمعنى كذا، لأنّ
- (2) وأمّا اختلاف الألوان فهو وإن كان فعل اللّه سبحانه وخارجاً عن اختيار الإنسان، ولعلّ بعض الأفرادالسود مثلاً يحزنون به، إلاّ أنّه لغرض أهمّ، كما يشير إليه قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍوَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ» الحجرات: 13. م ح ـ ى.
(صفحه120)
المخاطب لايفهم كلامه بعدُ، كما تقدّم.
قلت: تفهيمه في المعاني الجزئيّة والأعلام الشخصيّة سهل، لأنّه يتمكّن منالإشارة إلى الموضوع له وإعلام أنّ اللفظ الفلاني وضع له، إنّما الإشكال فيالمفاهيم الكلّيّة، مثل حقيقة الماء، فإنّ لفظه وضع لمفهوم الماء لا لمصاديقهالخارجيّة، فلو أحضر الواضع كأساً من الماء، وقال: «وضعت لفظ الماء لهذا»لم يصحّ، إذ لم ينتقل ذهن السامع منه إلى المفهوم، لكن يمكن التفهيم في مثلهبطريق آخر، وهو أن يشير إلى ماء كأس ويقول: هذا ماء، ثمّ فعل كذلك بماءآخر، ثمّ بماء ثالث، وهكذا، فإنّ تكرار هذا العمل بالنسبة إلى مياه متعدّدةيكشف من أنّ لفظ الماء موضوع لمفهومه العامّ، وكلّ من المياه الخارجيّةمصداق له.
والحاصل: أنّ وضع الألفاظ للمعاني بيد البشر، لكنّ البشر الأوّلي لم يفتقرفي تفهيم مقاصده إلاّ إلى وضع ألفاظ معدودة قليلة واستعمالها، ثمّ ازدادالحاجة، فوضع سائر الناس ألفاظاً اُخرى لمعانٍ مستحدثة، وهكذا.
وأمّا تعدّد اللغات وتكثّرها فمنشأه التعصّبات القوميّة التي تحرّك القبائل إلىوضع لغة جديدة وعدم تكلّمهم بلغة سائر القبائل.
فوضع الألفاظ وتوسعة اللغات وتكثّرها كلّها بيد البشر، لكن لم تتحقّقبيد بشر واحد، بل اشترك فيها أفراد متعدّدة من الناس في طول الزمان، فكلّموجدوا معنىً جديداً وضعوا له لفظاً خاصّاً، فاتّسعت اللغات يوماً فيوماً.