ج1
لا يقال: نعم، لكن تصوّره يوجب تصوّر الكلّي بنفسه لا بعنوانه، فيكونمن قبيل الوضع العامّ، وهو ـ كما قال المحقّق الخراساني رحمهالله ـ خارج عن محلّالكلام.
فإنّه يقال: كلاّ، فإنّ الوالد عند تسمية ولده لا يتصوّر إلاّ هذا المولودالخارجي، من دون أن يكون له تصوّر آخر هاهنا، لكن تصوّره بنفسه يوجبتصوّر ماهيّته الكلّيّة بوجهها، لدخلها فيه وفي تسميته، فيكون وجهاً لها.
وأمّا قول المنطقيّين: «الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً» فمردود بعدشهادة البرهان على خلافه.
والحاصل: أنّ الخاصّ يكون مرآةً للعامّ، لأنّه ماهيّةٌ ووجود وتخصّصبالخصوصيّات الفرديّة، فلا يمكن تصوّره بدون تصوّر العامّ بنفس التصوّرالمتعلّق بالخاصّ، وأمّا العامّ فلا يمكن أن يكون مرآةً للخاصّ، لأنّه عبارة عنالماهيّة، ولا دخل للوجود والتشخّصات الفرديّة فيها، لأنّها من حيث هيليست إلاّ هي، لا موجودة ولا معدومة، كما تقدّم.
فلابدّ من القول باستحالة القسم الثالث وإمكان الرابع، عكس ما ذهب إليهالمحقّق الخراساني رحمهالله وتلامذته.
نظريّة المحقّق العراقي رحمهالله حول عموم الوضع والموضوع له
وللمحقّق العراقي رحمهالله في معنى الوضع العامّ والموضوع له العامّ تحقيق، وهوأنّه يتصوّر على نحوين:
أ ـ أنّ الواضع لاحظ معنى كلّيّاً بنحو الماهيّة المهملة التي لا قيد لها أصلاً،حتّى قيد الإطلاق التي يعبّر عنها بالماهيّة اللابشرط المقسمي، ووضع اللفظله، كما إذا تصوّر معنى الإنسان من دون أيّ قيد، ووضع اللفظ له.
(صفحه158)
ب ـ أن يتصوّر الماهيّة المقيّدة بالإطلاق والسريان في الأفراد، كما إذا تصوّرالحيوان الناطق الساري في الأفراد، ووضع لفظ الإنسان له.
وثمرة هذين النحوين لزوم التجوّز في مثل قولنا: «زيد إنسان» على الثانيدون الأوّل، لأنّ زيداً لم يكن الإنسان الساري في الأفراد، فلابدّ من تجريدالمحمول من قيد السريان، واستعماله في نفس الماهيّة، فيكون مجازاً، بعلاقةالكلّ والجزء، وأيضاً يستلزم تقييد المطلق التجوّز على الثاني دون الأوّل، فإنّالمولى إذا قال: «أعتق رقبة» ثمّ قال: «لا تعتق رقبة كافرة» فلا محالة كانمراده من الرقبة في الحكم الأوّل خصوص المؤمنة، فلم يستعملها في الماهيّةالسارية في الأفراد المؤمنة والكافرة، بل استعملها في نفس الماهيّة، فيكونمجازاً على المعنى الثاني دون الأوّل، إذ إرادة الرقبة المؤمنة تكون من قبيل تعدّدالدالّ والمدلول على الأوّل، وهو لا يستلزم التجوّز.
هذا كلّه على ما هو المشهور من معنى الوضع العامّ والموضوع له العامّ.
ثمّ إنّه رحمهالله اختار معنىً آخر له، وذكر لتوضيحه مقدّمة فلسفيّة، وهي:
أنّ الحقّ الذي كشف عنه التحقيق هو أصالة الوجود، وأنّ الماهيّة أمراعتباري ينتزعه العقل عن كلّ مرتبة من مراتب الوجود التي لا تكاد تتناهىمراتبه في القوّة والضعف، إذ كلّ مرتبة من تلك المراتب إذا تصوّرها العقلبحدودها التي تنتهي إليها انتزع منها عنواناً خاصّاً بتلك المرتبة يسمّيهالاصطلاح الفنّي بالماهيّة، مثلاً الوجود يسير في الجوهر المحسوس، فإذا لاحظهالعقل في مرتبة كونه شاغلاً للحيّز والمكان، قبل أن يصل سيره إلى النموّ انتزعمنه عنوان الجسم فقط، وإذا سار الوجود واستكمل مرتبة النموّ فقط، انتزعالعقل من هذه المرتبة عنواناً خاصّاً بها يسمّى بالنبات، وهكذا كلّما سار
ج1
الوجود وترقّى من مرتبة إلى أعلى وأكمل من الأوّل انتزع العقل من تلكالمرتبة التي إنتهى إليها عنواناً خاصّاً بها يسمّى باسم من أسماء الماهيّاتالمعروفة(1).
فهذا هو معنى كون الوجود أصيلاً والماهيّة أمراً اعتباريّاً، فإنّ الحقيقة ذاتالأثر هو الوجود، والماهيّة هي العنوان الذي يشار به إلى مرتبة ذلك الوجود،لا أنّها شيء في قبال الوجود، وبذلك اتّضح لك معنى الكلّي الطبيعي، وأنّه هوالعنوان المنتزع من مرتبة خاصّة من الوجود السعيّ المتحقّق في ضمنالوجودات الشخصيّة التي تكون أفراداً لذلك الكلّي، وعليه يكون معنى الفردهو الوجود الشخصي الذي ينتزع منه عنوان خاصّ به يسمّى حصّة منالكلّي الطبيعي، وبهذا تعرف المراد بالكلّيّة الدارجة بين أهل الفنّ من أنّالطبيعي نسبته إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء، لا نسبة الأب الواحد إلىأولاده الكثيرين، أي أنّ كلّ حصّة تكون نسبتها إلى الفرد الذي تنتزع منهنسبة الأب الواحد إلى ولد واحد.
هذه هي المقدّمة المذكورة في كلامه رحمهالله .
ثمّ قال: إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ كلّ مرتبة من مراتب الوجود السعيّ إذلاحظناها بآثارها وحدودها مع قطع النظر عن اقترانها بالمشخّصاتالخارجيّة وسريانها في الوجودات الشخصيّة أمكن انتزاع عنوان خاصّ بتلكالمرتبة يعبّر عنه بالكلّي الطبيعي، وهي طريقة المشهور في تصوّره، وبما أنّ تلكالمرتبة من الوجود السعيّ سارية في الوجودات الشخصيّة ومقترنةبالمشخّصات الجزئيّة يكون مطابق ذلك العنوان المعبّر عنه بالكلّي الطبيعي
- (1) كالحيوان والإنسان. م ح ـ ى.
(صفحه160)
سارياً في الوجودات الشخصيّة أيضاً بسريان الوجود السعيّ فيها، وحينئذٍيمكن ملاحظة تلك المرتبة من الوجود السعيّ في حال سريانها في الوجوداتالشخصيّة واقترانها بالمشخّصات الجزئيّة بحصول صورة تلك المرتبة في الذهنمع ما يلزمها من المشخّصات التفصيليّة، فيوضع اللفظ بإزاء هذه الصورةنفسها، وإن كان حصولها في الذهن مستلزماً لتصوّر مشخّصات تلك المرتبةتفصيلاً.
فإن قلت: هذا النحو من الوضع يستلزم تصوّر الموضوع له، وهي المرتبةالخاصّة من الوجود السعيّ الساري في جميع الوجودات الجزئيّة، وتصوّرالموضوع له المزبور يستلزم تصوّر تلك الوجودات الجزئيّة التي لا نهاية لها،وهو محال.
قلت: لا اختصاص لهذا الإشكال بهذا المقام، بل هو يتوجّه على كلّ مسألةينشأ الحكم فيها على ما لا نهاية له، كالقضيّة الحقيقيّة التي يتناول الحكم فيهجميع أفراد الطبيعة المحقّقة والمقدّرة، فكما يكون العنوان مرآةً لملاحظة مينطبق عليه من الأفراد إجمالاً، كذلك يكون العنوان العامّ في المقام مرآةًلملاحظة تلك المرتبة من الوجود السعيّ وما يسري فيه من الأفراد، وهذا نحوآخر من الوضع العامّ والموضوع له العامّ(1)، إنتهى.
نقد نظريّة المحقّق العراقي رحمهالله
وفيه ـ كما قال سيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه» ـ أنّ كلّ فرد من أفراد أيّ كلّي فرضفهو مشتمل على تمام حقيقة كلّيّه وطبيعيّه، فكلّ فرد يتحقّق فيه الطبيعي
- (1) بدائع الأفكار 1: 34، وهذا الكتاب ألّفه آية اللّه الميرزا هاشم الآملي قدسسره من تقريرات المحقّق العراقي رحمهالله ،والمطلب موجود في كتاب نهاية الأفكار الذي قرّره المحقّق الشيخ محمّد تقي البروجردي رحمهالله من أبحاثهأيضاً ببيان آخر، فراجع. م ح ـ ى.
ج1
بتمامه، فزيد إنسان تامّ، لا حصّة منه، وعمرو أيضاً إنسان تامّ آخر، وهكذا،ولو كان للطبيعي وجود واحد سعيّ منتشر في الأفراد لكان قولنا: «زيدإنسان» مجازاً، فإنّ زيداً على هذا لم يكن إنساناً تامّاً، بل حصّة منه، ولا أظنّأن يلتزم أحد بذلك، فإنّ كلّ واحد من زيد وعمرو وبكر وهكذا متّحد فيالخارج مع الإنسان بتمامه لا مع حصّة منه.
على أنّه إن لم يكن للطبيعي سوى الأفراد شيء في الخارج، فأينالوجود السعيّ الذي ادّعاه؟! وإن كان له وجود غير وجودها كما هو ظاهركلامه فهذا كرّ على ما فرّ، إذ على هذا كان نسبة الطبيعي إلى الأفراد نسبةالأب الواحد إلى أولاده الكثيرين، لا نسبة الآباء إلى الأولاد، وهذا ينطبق لمينسب إلى الرجل الهمداني القائل بوجود الطبيعي في الخارج بالوحدةالشخصيّة.
وأمّا نحن فمع كوننا قائلين بأصالة الوجود نقول بأنّ نسبة الطبيعي إلىالأفراد نسبة الآباء إلى الأولاد، فإنّ الطبيعي موجود بوجود كلّ فرد فرد كمعرفت، فزيد مع كونه فرداً إنسان تامّ، وهكذا عمرو وبكر وخالد وغيرهممن أفراد الإنسان(1).
فالحقّ ما ذهب إليه المشهور في تصوير الوضع العامّ والموضوع له العامّ، ولينافيه القول بأصالة الوجود.
وحاصل البحث في المقام الثاني إمكان ثلاثة من الأقسام الأربعة،واستحالة قسم واحد، وهو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.