(صفحه184)
وإنّها موجودة غير معدومة ولا ممتنعة.
وتحصّل ممّا ذكرناه أنّ الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط مطلقاً،سواء كانت بمعنى «ثبوت شيء لشيء» كما في الوجود الرابط المختصّ بمفادالهليّات المركّبة الإيجابيّة، أو «ثبوت الشيء» كما في الوجود الرابط المختصّبمفاد الهليّات البسيطة، أو كانت من النسب الخاصّة المقوّمة للأعراض النسبيّة،ككون الشيء في الزمان أو المكان أو نحو ذلك.
وأمّا الموضوع بإزاء مفاهيمها فهي ألفاظ «النسبة» و«الربط» ونحوهما منالأسماء المحكيّة عنها بتلك الألفاظ، لا بالحروف والأدوات(1).
هذا ملخّص ما أفاده الشيخ محمّد حسين الاصفهاني قدسسره .
نقد نظريّة المحقّق الاصفهاني من قبل المحقّق الخوئي وجوابه
وقد ناقشه بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات بوجوه:
منها: أنّه لا وجود للنسبة والربط في الخارج في مقابل وجود الجوهروالعرض، وأمّا البرهان الذي ذكره لإثباته فيرد عليه أنّ صفتي اليقين والشكوإن كانتا صفتين متضادّتين، فلا يكاد يمكن أن تتعلّقا بشيء في آنٍ واحد منجهة واحدة، إلاّ أنّ تحقّقهما في الذهن لا يكشف عن تعدّد متعلّقهما في الخارج،فإنّ الطبيعي عين فرده ومتّحد معه خارجاً، ومع ذلك يمكن أن يكون أحدهممتعلّقاً لصفة اليقين والآخر متعلّقاً لصفة الشكّ، كما إذا علم إجمالاً بوجودإنسان في الدار ولكن شكّ في أنّه زيد أو عمرو، فلا يكشف تضادّهما عن تعدّدمتعلّقيهما بحسب الوجود الخارجي، فإنّهما موجودان بوجود واحد حقيقةً،
ج1
وذلك الوجود الواحد من جهة انتسابه إلى الطبيعي متعلّق لليقين، ومن جهةانتسابه إلى الفرد متعلّق للشكّ.
والحاصل: أنّ ما أفاده المحقّق الاصفهاني من لزوم تغاير القضيّة المتيقّنة معالمشكوكة فهو وإن كان كذلك، إلاّ أنّه يكفي التغاير ذهناً، ولا يلزم التغايرخارجاً(1).
وفيه: أنّ تغاير القضيّة المتيقّنة مع المشكوكة الذي ادّعاه المحقّقالاصفهاني رحمهالله ليس بمعنى أنّ لهما وجودين مستقلّين، بل بمعنى أنّهما واقعيّتانمتغايرتان، وإن كانت إحداهما فانية في الاُخرى، وهذا واضح بملاحظة المثالالذي ذكره، فإنّ وجود الجدار ووجود البياض أمران متيقّنان، وكلّ منهمواقعيّة مستقلّة، وصيرورة الجدار أبيض واقعيّة ثالثة مشكوكة وفانية فيهما،ولا يجب أن يكون جميع الواقعيّات مستقلّة في الوجود.
والعجب من بعض الأعلام، حيث قال بكفاية التغاير الذهني بين القضيّةالمتيقّنة والمشكوكة، فإنّ اليقين والشكّ إذا تعلّقا بالخارج كما في المقام فلا معنىللقول بكفاية التغاير الذهني بينهما.
نعم، لا يجب تغاير المتيقّن والمشكوك بحسب الوجود الخارجي، والمحقّقالاصفهاني رحمهالله أيضاً لا يدّعي ذلك، بل يكفي تغايرهما بحسب الواقعيّة، وهذالنحو من المغايرة متحقّق في المثال الذي ذكره بعض الأعلام أيضاً، فإنّ واقعيّةوجود الإنسان في الدار غير واقعيّة وجود زيد فيها، وإن كانا متّحدينخارجاً، كما أنّا إذا تيقّنّا بوجود زيد مثلاً في الدار تيقّنّا أيضاً بوجود الإنسانوالحيوان والجسم النامي والجسم المطلق فيها، وكلّها متّحدة في الوجود
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 79.
(صفحه186)
الخارجي لكن واقعيّة كلّ منها غير الواقعيّات الاُخر.
فعند دخول زيد في الدار تحقّق حقائق خمسة فيها: 1ـ زيد، 2ـ الإنسان، 3الحيوان، 4ـ الجسم النامي، 5ـ الجسم المطلق، ويمكن أن يكون كلّها متيقّنة،كما إذا علمنا بدخول زيد في الدار، وكلّها مشكوكة، كما إذا شككنا في وجودالجسم فيها، كما يمكن أن يكون بعض مراحلها متيقّنة وبعضها مشكوكة، كمإذا علمنا بدخول حيوان فيها وشككنا في أنّه أيّ نوع من أنواعه، فلنا حينئذٍثلاث واقعيّات متيقّنة وواقعيّتان مشكوكتان، كما هو واضح.
والحاصل: أنّ المحقّق الاصفهاني رحمهالله لا يدّعي مغايرة القضيّة المتيقّنة معالمشكوكة من حيث الوجود الخارجي، بل يقول بلزوم التغاير بينهما من حيثالواقعيّة، واتّحاد شيئين بحسب الوجود لا يستلزم اتّحادهما بحسب الواقعيّة.
ومنها: أنّه على تقدير تسليم أنّ للنسبة والربط وجوداً في الخارج في مقابلالجوهر والعرض، فلا نسلّم أنّ الحروف موضوعة لها، إذ لا يمكن الوضع لواقعالنسبة والربط، للزوم تصوّر المعنى وإحضاره في الذهن عند الوضع، ولا يمكنإحضار واقع الربط في الذهن، لأنّه موجود في الخارج، والموجود في الخارجبما هو كذلك لا يمكن أن يحضر في الذهن(1).
وفيه: أنّ هذا الإشكال لو تمّ لجرى في الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّأيضاً، والحقّ أنّه ممكن، وهو«مدّ ظلّه» أيضاً قائل بإمكانه، بل بوقوعه، ومثّل لهبالأعلام الشخصيّة.
ونحن وإن ناقشنا في التمثيل له بالأعلام، إلاّ أنّ مناقشتنا كانت لأجلانقلاب القضيّة الممكنة إلى الضروريّة بشرط المحمول، لا لما ذكره بعض
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 81 .
ج1
الأعلام«مدّ ظلّه».
على أنّا منعنا كون الأعلام مثالاً للوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، لأصل إمكانه، وما ذكره بعض الأعلام يقتضي استحالة هذا القسم من الوضع.
وحلّه أنّ الموجودات الخارجيّة بوصف كونها في الخارج وإن لم تحضر فيالذهن، إلاّ أنّ صورتها تحضر فيه، وهذه الصورة تكون ملحوظة بالذات ومفي الخارج يكون ملحوظاً بالعرض، ويكفي عند الوضع أن يكون المعنىملحوظاً بالعرض.
فلا إشكال في إمكان أن يتصوّر الواضع مفهوم النسبة والربط ثمّ يضعالحروف لواقع النسبة والربط الذي يكون بالحمل الشائع نسبةً وربطاً، كما فيالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ(1)، وإن كان بينهما فرق، وهو أنّ مفهومالنسبة وواقعها من قبيل العنوان والمعنون كما تقدّم(2)، والعامّ والخاصّ فيالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ من قبيل الطبيعي وأفراده.
ومنها: أنّا لو سلّمنا إمكان وضع اللفظ للموجود الخارجي، ولكنّا نقطعبأنّ الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط، لأنّا نجد لها استعمالات متعدّدةكلّها بنحو الحقيقة، ومع ذلك يستحيل في بعضها تحقّق النسبة والربط، مثلاً لفرق بين قولنا: «الوجود للإنسان ممكن» وبين قولنا: «الوجود للّه تعالىضروري» و«الوجود لشريك الباري ممتنع» فإنّ كلمة اللام في جميع ذلكتستعمل في معنى واحد، وهو تخصّص مدخولها بخصوصيّة ما في عالم المعنىعلى نسق واحد بلا عناية تجوّز في شيء منها، مع أنّ تحقّق الربط بين الوجود
- (1) هذا بناءً على المشهور الذين منهم المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه»، وإلاّ فقد اختار الاُستاذ المحاضر«مدّ ظلّه»استحالة الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، كما تقدّم. م ح ـ ى.
(صفحه188)
والإنسان ممكن، حيث إنّ للإنسان ماهيّة مغايرة للوجود، بخلاف المثالينالأخيرين، حيث لا يمكن تحقّق الربط بين الوجود وبين اللّه تعالى، لأنّه عينالوجود لا مرتبط به، ولا بينه وبين شريك الباري، فإنّه لا يرتبط بالوجود،لأنّه يستحيل عليه(1).
وفيه: أنّ هذه القضايا الحمليّة بملاحظة جميع أطرافها من الموضوعوالمحمول واللام ومدخولها تكون في الواقع هكذا: «الوجود الإمكانيللإنسان» و«الوجود الضروري للّه تعالى» و«الوجود الممتنع لشريك الباري»وعلى هذا لا إشكال في تحقّق الربط في جميعها، فإنّ العينيّة متحقّقة بين اللّهتعالى وأصل الوجود، لا بينه وبين ضرورته، بل ضرورة الوجود ترتبط به،والاستحالة متحقّقة بين شريك الباري وأصل الوجود لا بينه وبين امتناعه،بل امتناع الوجود يرتبط به.
وبالجملة: لا يرد شيء من هذه الإشكالات على المحقّق الاصفهاني رحمهالله ، فمذهب إليه صحيح متين إلاّ في بعض الحروف التي يكون معناها إيجاديّاً.
6ـ نظريّة المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» في وضع الحروف
قال بعض الأعلام«مدّ ظلّه» ـ على ما في كتاب المحاضرات وحاشيةالتقريرات ـ : إنّ الحروف والأدوات تباين الأسماء ذاتاً وحقيقةً، ولا اشتراكلهما في طبيعي معنى واحد، وهذا ممّا لا شبهة فيه. ونتكلّم في أنّ المعاني الحرفيّةالتي تباين الاسميّة بتمام الذات ما هي؟
فنقول: إنّ الحروف على قسمين:
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 81 .