ج1
أقول: هذا وإن أمكن أن يكون جواباً عن الإشكال الأوّل، إلاّ أنّه لا يصلحأن يكون جواباً عن الإشكال الثاني، وهو كيفيّة انحصار الحروف في القسمين.
وأجاب عمّا أورده المحقّق الخراساني رحمهالله سيّدنا الاُستاذ الأعظم«مدّ ظلّه» بوجهآخر، وهو أنّ الحروف حيث تكون موضوعة لأنحاء النسب والروابط تكونمن قبيل المشترك اللفظي، إلاّ أنّ الوضع هنا واحد، والمعاني غير متناهية،بخلاف المشترك اللفظي المصطلح، فإنّ الوضع هناك متعدّد بتعدّد المعاني،والمعاني أيضاً متناهية، فإذا قلنا: «سر من البصرة إلى الكوفة» يكون من قبيلاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
ودعوى عدم جواز هذا النحو من الاستعمال ممنوعة، ولو سلّمنا عدمالجواز لاختصّ بالمشترك اللفظي المصطلح، أعني الأسماء التي لا تبعيّة لها فيدلالتها، بخلاف الحروف التي استعمالها ودلالتها وتحقّقها تبعيّة غير مستقلّة،فيكون هذا النحو من الاستعمال في الكثير والحكاية عنه ممّا لا محذور فيه، بلوإن كان المحكي غير متناهٍ، بعدما عرفت من أنّ التكثّر في الدلالة والاستعمالتبعي لا استقلالي(1).
أقول: والحقّ في الجواب أنّ الكلّيّة في قولنا: «سر من البصرة إلى الكوفة»لا تتصوّر إلاّ بحسب الزمان والطريق والمركب ونحوها، وهذه الاُمور وإنكانت عند الأخبار مشخّصةً، إلاّ أنّ الجملة الخبريّة أيضاً لا تكون حاكيةًعنها، فإنّا إذا قلنا: «سرت من البصرة إلى الكوفة» لا يدلّ على أزيد منصدور السير من المتكلّم مع كون ابتدائه البصرة وانتهائه الكوفة، وأمّا زمانالسير وطريقه ومركوبه فهي وإن كانت متعيّنة في الواقع، إلاّ أنّ الجملة
(صفحه200)
لا تحكي عنها.
ولا ريب في أنّ المحكيّ بهذه الجملة الخبريّة تمام معناها، والقول بأنّ المحكيّبها بعض المعنى خلاف الوجدان.
فمن هنا يعلم أنّ ما وضع له كلمة «من» مثلاً هو أنحاء النسب الابتدائيّةالمتعلّقة بالطرفين المندكّة فيهما من دون أن يكون سائر الخصوصيّات كالزمانونحوه دخيلةً فيه، ولا فرق فيه بين الحروف المستعملة في الجملة الخبريّةوالإنشائيّة.
وهذا الجواب أجود من الجوابين الأوّلين، لأنّهما مبنيّان على تسلّم كلّيّةمعاني الحروف المستعملة تلو الأوامر والنواهي وما في معناهما، إلاّ أنّالإشكال ينحلّ بناءً على الجواب الأوّل بتبعيّة معاني الحروف في الكلّيّةوالجزئيّة لطرفيها، وبناءً على ما ذكره الإمام«مدّ ظلّه» بأنّ استعمال هذه الحروفتكون من قبيل استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد.
بخلاف ما ذكرناه، إذ لا مجال عليه للقول بكلّيّة المعنى الحرفي أصلاً، فإنّالحروف الحاكية وضعت للإضافات الخاصّة وتستعمل فيها، ولا فرق في ذلكبين كونها في الجمل الخبريّة والإنشائيّة كما مرّ توضيحه.
والحاصل: أنّ الحروف على قسمين: حاكية، وهي أكثرها، كـ «من» و«إلى»و«في» ونحوها، سواء استعملت في الجمل الخبريّة أو الإنشائيّة(1)، وإيجاديّة،
- (1) توضيح ذلك: أنّ للحروف الحاكية واقعيّة خارجيّة محكيّة بها، إلاّ أنّها تحقّقت سابقاً في موارد استعمالالحروف في حيّز الماضي، نحو «سرت من البصرة إلى الكوفة» وستتحقّق في الآتي فيما إذا استعملت فيحيّز المستقبل، مثل «سأسير من البصرة إلى الكوفة» أو في حيّز الأمر، مثل «سر من البصرة إلى الكوفة»بخلاف الحروف الإيجاديّة، حيث قد عرفت أنّه لا واقعيّة لمعانيها أصلاً، ألا ترى أنّه ليس للتأكيد مثلواقعيّة خارجيّة، سواء استعملت حروفه في حيّز الماضي، مثل «إنّ زيداً قام» أو في حيّز المستقبل، نحو«إنّ زيداً سيقوم» فلا فرق بين الجملة الاُولى وبين قولنا: «زيد قام» ولا بين الثانية وبين قولنا: «زيدسيقوم» بحسب الواقعيّة الخارجيّة. م ح ـ ى.
ج1
كحروف التأكيد والقسم والنداء ونحوها، والمعنى في كلا القسمين غير مستقلّ،بل مندكّ في الطرفين.
والوضع في الكلّ بطريق واحد، فإنّ الواضع في مقام وضع كلمة «من» مثللأنحاء النسب الابتدائيّة حيث لم يتمكّن من تصوّر جميعها، لعدم تناهيها،احتاج إلى تصوّر عنوان النسبة الابتدائيّة وأشار بها إلى المعنونات، ثمّ وضعاللفظ لنفس المعنونات، وهكذا إذا أراد وضع لام الابتداء مثلاً لأنحاء إيجادالتأكيد تصوّر عنوان إيجاد التأكيد، وأشار به إليها، ثمّ وضع اللفظ لتلكالمعنونات، لا لهذا العنوان.
فوضع الحروف عندنا نظير الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ عندالمشهور، لا نفسه، فإنّا قلنا باستحالته فيما سبق.
هذا تمام الكلام في وضع الحروف.
(صفحه202)
القول في القضاي
القول في القضاي
إنّ المحقّق الخراساني رحمهالله تعرّض للبحث عن الفرق بين الخبر والإنشاء عقيبمبحث الحروف، ولا بأس بتحقيق حول القضايا قبل ذلك، فإنّ لها فوائدوثمرات كثيرة في بعض المباحث الآتية، فنقول: تنقسم القضيّة الحمليّة إلىأربعة أقسام، لأنّ الحمل إمّا أوّلي ذاتي، أو شائع صناعي.
والحمل الأوّلي ما كان الموضوع فيه متّحداً مع المحمول بحسب الماهيّة،سواء اتّحدا بحسب المفهوم أيضاً مثل «الإنسان إنسان» و«الإنسان بشر» بناءًعلى اتّحاد الإنسان مع البشر مفهوماً أيضاً، أم اختلفا فيه، مثل «الإنسانحيوان ناطق» فإنّ مفهوم الموضوع هنا مفهوم إجمالي للمحمول، ومفهومالمحمول مفهوم تفصيلي للموضوع، فهما يختلفان بحسبه، ولذا قد يحضر مفهوم«الإنسان» في الذهن من دون أن يحضر فيه مفهوم «الحيوان الناطق»، وكذلكالعكس، فالحمل الأوّلي انقسم إلى قسمين.
والحمل الشائع ما كان الموضوع والمحمول فيه مختلفين بحسب الماهيّةومتّحدين بحسب الوجود، سواء كان الموضوع مصداقاً حقيقيّاً للمحمول،كقولنا: «زيد إنسان» و«البياض أبيض» فإنّ إنسانيّة زيد ذاتي له لا يحصل لهمن الخارج، وهكذا أبيضيّة البياض، أو مصداقاً عرضيّاً له، كقولنا: «الجسم
ج1
أبيض» فإنّ أبيضيّة الجسم خارج عنه عارض له، ويسمّى الأوّل بالحملالشائع بالذات، والثاني بالحمل الشائع بالعرض.
فأقسام القضايا الحمليّة بهذا التقسيم أربعة.
البحث حول أجزاء القضاي
ذهب المشهور إلى أنّ القضايا الحمليّة مركّبة من ثلاثة أجزاء، ولا فرق فيذلك بين الواقع والملفوظ والمعقول.
توضيح ذلك: أنّ زيداً إذا قام في الخارج، وحكيت ذلك لصديقك بقولك:«زيد قائم» فلنا هاهنا ثلاث قضايا:
أ ـ الواقعيّة الخارجيّة التي نعبّر عنها بالقضيّة المحكيّة.
ب ـ القضيّة الملفوظة أو اللفظيّة، وهي قولك: «زيد قائم».
ج ـ القضيّة المعقولة، وهي ما تعقّله وتصوّره صديقك عند سماع القضيّةاللفظيّة.
والمشهور قالوا بتركّبها من ثلاثة أجزاء في جميع هذه المراحل الثلاث، فإنّالواقعيّة الخارجيّة مركّبة من ثلاثة اُمور: زيد والقيام والربط بينهما، أي كونزيد قائماً، والقضيّة اللفظيّة أيضاً مركّبة من الموضوع والمحمول والهيئةالتركيبيّة، ولذا تحكي عن الواقع كما هو، وهكذا القضيّة المعقولة، فإنّ السامعلقولنا: «زيد قائم» يتصوّر تلك الاُمور الثلاثة الواقعيّة.
هذا هو المشهور بينهم.
والتحقيق في ذلك يستدعي رسم مقدّمتين:
الاُولى: أنّ النسبة ـ كما قلنا عند تحقيق المعاني الحرفيّة ـ ليست أمراً وهميّتخيّليّاً، بل لها واقعيّة خارجيّة متعلّقة بالطرفين، ولابدّ من كون الطرفين