ج1
و«الدار» موجودان، وليس بينهما نسبة.
والحاصل: أنّ القول بتركّب القضايا الحمليّة من ثلاثة أجزاء خلاف الواقع،لعدم تحقّق النسبة لا في الموجبات ولا في السوالب أصلاً.
وبهذا ظهر فساد قول المنطقيّين: «العلم إن كان إذعاناً للنسبة فتصديق وإلفتصوّر» وقول أهل البلاغة في تعريف الصدق: «الصدق في القضايا أن يكونلنسبتها واقع تطابقه».
لا يقال: كلامكم يقتضي خلوّ القضيّة المحكيّة عن النسبة، ولعلّ مرادالمشهور أنّ القضيّة اللفظيّة والمعقولة مركّبة من ثلاثة أجزاء.
فإنّه يقال: الأصل كما عرفت هو القضيّة الواقعيّة المحكيّة، وأمّا اللفظيّةالحاكية وكذا المعقولة فهما تابعتان للواقع، فإذا كان الواقع خالياً عن النسبةكانت القضيّة اللفظيّة أيضاً خالية عنها، وإلاّ فلم تكن مطابقة للواقع ومرآةً له،فلم تكن صادقة، والقضيّة المعقولة أيضاً لابدّ من أن تكون مطابقة للواقع،لأنّها صورته المرتسمة في ذهن المخاطب عند سماع القضيّة اللفظيّة.
ملاك الحمل في القضاي
إن قلت: لو كانت القضايا الحمليّة خالية عن النسبة، فما ملاك الحمل فيها؟
قلت: ملاك الحمل هو الاتّحاد والهوهويّة كما قال المحقّق الخراساني رحمهالله فيمبحث المشتقّ(1).
وأكمل مراتب الهوهويّة هو الاتّحاد في المراحل الثلاث، أعني في المفهوموالماهيّة والوجود الخارجي، كما في قولنا: «الإنسان إنسان» وأوسطها هو
- (1) وكلامه هذا وإن كان حقّاً، إلاّ أنّه مغاير لما اختاره في مبحث إطلاق اللفظ وإرادة نوعه، من تركّب القضيّةمن ثلاثة أجزاء كما قال به المشهور. منه مدّ ظلّه.
(صفحه208)
الاتّحاد في الماهيّة والوجود، كما في قولنا: «الإنسان حيوان ناطق» وأضعفههو الاتّحاد في الوجود فقط، كما في الحمل الشائع الصناعي بقسميه، مثل«البياض أبيض» و«الجسم أبيض».
نعم، يمكن الإشكال في تحقّق الاتّحاد في مثل «الجسم له البياض» و«زيد فيالدار» من الحمليّات بالحمل الشايع بالعرض، لكنّ الحقّ كما قال النحويّونأنّها مأوّلة بتقدير «كائن» و«ثابت» ونحوهما، فالاتّحاد بين الموضوع وما هوالمحمول واقعاً، ثابت، وإن لم يتحقّق الاتّحاد بينه وبين ما هو المحمول بحسبالظاهر.
هذا في القضايا الموجبة.
وأمّا في السوالب ـ وهي التي يكون الملاك فيها نفي الهوهويّة والاتّحاد فلابدّ من ملاحظة نفي الاتّحاد الذي لوحظ ثبوته في موجباتها.
ففي الحمليّات بالحمل الشايع مثل «زيد ليس بقائم» لابدّ من لحاظ نفيالهوهويّة بحسب الوجود(1) لأنّ الهوهويّة في موجباتها كانت بملاكه(2).
وفي مثل «الإنسان ليس بحيوان ناهق» لابدّ من لحاظ نفي الاتّحاد بحسبالماهيّة(3)، لأنّ الاتّحاد في ما يسانخها من الموجبات مثل «الإنسان حيوانناطق» يكون بحسبها.
- (1) والموضوع والمحمول في مثله وإن لم يكونا متّحدين بحسب الماهيّة والمفهوم أيضاً، إلاّ أنّ نفيالاتّحاد بملاكهما لم يكن ملحوظاً. م ح ـ ى.
- (2) فقضيّة «زيد إنسان» صادقة بالحمل الشايع الذي ملاكه الاتّحاد بحسب الوجود، وكاذبة بالحمل الأوّليالذي ملاكه الاتّحاد بحسب الماهيّة، لأنّ ماهيّة «زيد» غير ماهيّة «الإنسان». بخلاف قضيّة «زيد ليسبإنسان» فإنّها صادقة بملاك نفي الحمل الأوّلي، وكاذبة بملاك نفي الحمل الشايع كما لا يخفى. م ح ـ ى.
- (3) وأمّا نفي الاتّحاد بحسب المفهوم والوجود فليس بملحوظ. م ح ـ ى.
ج1
وأمّا مثل قضيّة «الإنسان ليس بحيوان ناطق» فإن اطلقت بملاك سلبالاتّحاد في المفهوم، كانت قضيّة صادقة، لعدم اتّحاد الموضوع والمحمول فيهمفهوماً وإن اتّحدا ماهيّةً ووجوداً، وإن اُطلقت بملاك سلب الاتّحاد في الماهيّة،كانت قضيّة كاذبة، عكس قولنا: «الإنسان حيوان ناطق» فإنّه قضيّة كاذبة إنلوحظ الاتّحاد بحسب المفهوم، وصادقة إن لوحظ بملاك الماهيّة كما لا يخفى.
(صفحه210)
في الخبر والإنشاء
في الخبر والإنشاء
مسلك صاحب الكفاية رحمهالله في الفرق بينهم
قد عرفت أنّ المحقّق الخراساني رحمهالله قال باتّحاد المعنى الحرفي والاسمي فيالمراحل الثلاثة، أعني الوضع والموضوع له والمستعمل فيه، وفرّق بينهما بحسبمقام الاستعمال(1).
ثمّ قال بعد ذلك:
ثمّ لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضاً كذلك، فيكونالخبر موضوعاً ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، والإنشاء ليستعملفي قصد تحقّقه وثبوته(2)، وإن اتّفقا فيما استعملا فيه(3).
توضيح محلّ النزاع يحتاج إلى ذكر مقدّمة: وهي أنّ الجمل على ثلاثةأقسام: بعضها متمحّض في الخبريّة، نحو «زيد قائم» وبعضها في الإنشائيّة نحو
- (1) فذهب رحمهالله إلى عموميّة الوضع والموضوع له والمستعمل فيه في الحروف وما يسانخها من الأسماء،وفرّق بينهما بأنّ الاسم وضع ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك، بلبما هو حالة لغيره. م ح ـ ى.
- (2) في هذه العبارة إشكال، فإنّ ظاهرها كون الاختلاف بين الخبر والإنشاء في المستعمل فيه، مع أنّ مرادهأنّه في مقام الاستعمال، ولو قال: «فيكون الخبر موضوعاً ليستعمل في المعنى في مقام قصد حكايته،والإنشاء ليستعمل فيه في مقام قصد تحقّقه وثبوته» لكان مطابقاً لمراده. منه مدّ ظلّه.
ج1
صيغة «افعل»(1) فلا يستعمل الأوّل في الإنشاء، ولا الثاني في الإخبار،وبعضها لا يتمحّض في أحدهما، بل يستعمل تارةً في الأوّل، واُخرى في الثاني،كصيغ العقود، نحو «بعت» فإنّه بهذا اللفظ الواحد قد يستعمل في الخبر وقديستعمل في الإنشاء، وهكذا الجمل الخبريّة التي تستعمل أحياناً في الإنشاء،نحو «يعيد» و«يغتسل» ونحوهما.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ مراد صاحب الكفاية بيان الفرق في هذا القسمالأخير الذي لا يتمحّض في الإخبار ولا في الإنشاء، لا في القسمين الأوّلين،فمحلّ النزاع أنّ ما وضع له لفظ «بعت» مثلاً لأجل الإخبار غير ما وضع لهلأجل الإنشاء، فيكون له معنى إخباري ومعنى إنشائي، أو له معنى واحدويختلف مقام الاستعمال فقط؟
فقال صاحب الكفاية: لا يبعد أن يكون الاختلاف بين الخبر والإنشاء فيمقام الاستعمال مع اتّحادهما في الموضوع له والمستعمل فيه، فالداعي إلىالاستعمال في الإنشاء قصد إيجاد المعنى وفي الخبر قصد الحكاية عنه، وكلاهمخارجان عن حريم المعنى.
أقول: هذا التعبير لا يلائم ما تقدّم منه رحمهالله في مبحث الحروف، فإنّه اعتقدهناك جزماً بكون الفرق بين معنى الاسم والحرف في مقام الاستعمال، وقالبعدم إمكان كونه في الموضوع له أو المستعمل فيه، وعبّر هاهنا بقوله: «ليبعد...» الدالّ على عدم الاعتقاد الجزمي.
- (1) فإنّ صيغة «افعل» لا تستعمل إلاّ في الإنشاء، سواء اُريد بها الوجوب أو الندب أو الجواز، كما إذا وردتفي مقام توهّم الحظر، فإنّ الأمر الوارد في مقام توهّم الحظر أيضاً لإنشاء مشروعيّة الفعل وجواز ارتكابه.
نعم، قد تستعمل صيغة الأمر في معانٍ اُخرى، لكنّها معانٍ مجازيّة خارجة عن محلّ النزاع. منه مدّ ظلّه.