إذا عرفت هذا فاعلم أنّ مراد صاحب الكفاية بيان الفرق في هذا القسمالأخير الذي لا يتمحّض في الإخبار ولا في الإنشاء، لا في القسمين الأوّلين،فمحلّ النزاع أنّ ما وضع له لفظ «بعت» مثلاً لأجل الإخبار غير ما وضع لهلأجل الإنشاء، فيكون له معنى إخباري ومعنى إنشائي، أو له معنى واحدويختلف مقام الاستعمال فقط؟
فقال صاحب الكفاية: لا يبعد أن يكون الاختلاف بين الخبر والإنشاء فيمقام الاستعمال مع اتّحادهما في الموضوع له والمستعمل فيه، فالداعي إلىالاستعمال في الإنشاء قصد إيجاد المعنى وفي الخبر قصد الحكاية عنه، وكلاهمخارجان عن حريم المعنى.
أقول: هذا التعبير لا يلائم ما تقدّم منه رحمهالله في مبحث الحروف، فإنّه اعتقدهناك جزماً بكون الفرق بين معنى الاسم والحرف في مقام الاستعمال، وقالبعدم إمكان كونه في الموضوع له أو المستعمل فيه، وعبّر هاهنا بقوله: «ليبعد...» الدالّ على عدم الاعتقاد الجزمي.
المختار في الفرق بين الخبر والإنشاء
وعلى كلّ حال فمقتضى التحقيق في المقام اتّحاد الخبر والإنشاء من حيثالموضوع له والمستعمل فيه واختلافهما بحسب الزمان، بخلاف ما ذهبنا إليه فيالدورة السابقة.
توضيح ذلك: أنّا قلنا سابقاً: يمكن ـ على ما اخترناه في مبحث المعانيالحرفيّة من كون الحروف موضوعة لأنحاء النسب الخاصّة الخارجيّة،والأسماء للمفاهيم الكلّيّة ـ القول بكون الخبر والإنشاء أيضاً مختلفين فيالموضوع له، فلفظ «بعت» الخبري، وضع للحكاية عن تحقّق البيع فيما مضى،والإنشائي لإنشاء البيع وإيجاده.
لكن يرد عليه إشكال مهمّ، وهو أنّ للأفعال وضعاً بحسب المادّة، ووضعآخر بحسب الهيئة، فإنّ مادّة «ضربتُ» وهي «ض ـ ر ـ ب» وضعت لمعنىمخصوص نعبّر عنه بالفارسيّة بـ «كتك» وهيئته للدلالة على صدور هذا المعنىمن المتكلِّم في زمن الماضي، ولا وضع آخر لمجموع المادّة والهيئة، فمن أينيستفاد الإنشاء في مثل «بعت»؟
لو كانت الهيئة دالّة عليه لكان سائر الأفعال التي تكون بهذه الهيئة مثل«ضربت» أيضاً مفيدةً للإنشاء، ولو كانت المادّة دالّة عليه لكان سائرالمشتقّات من هذه المادّة مثل «باع» أيضاً مفيدة له.
وحيث إنّه لا يمكن الذبّ عن هذا الإشكال فلابدّ من القول باتّحاد معنىالإخبار والإنشاء، خلاف ما اخترناه في الدورة الماضية.
توضيحه: أنّ الأفعال الدالّة على الإنشاء تارةً وعلى الإخبار اُخرى مثل«بعت» و«أنكحت» ونحوهما من صيغ العقود تكون بمادّتها متضمّنة للإنشاء
ج1
حتّى فيما إذا استعملت للإخبار، فيكون جملة «بعت داري» في مقام الإخبار، أو«باع زيد داره» بمعنى «صار إنشاء البيع متحقّقاً منّي أو من زيد في السابق»ويكون جملة «بعتك داري بكذا» مخاطباً للمشتري في مقام الإنشاء بمعنى«صار إنشاء البيع متحقّقاً منّي الآن».
فلا فرق بين الإخبار والإنشاء إلاّ من حيث الزمان، وهو لا يوجبالاختلاف في حقيقتهما، كما أنّ الفعل المضارع قد يكون للحال وقد يكونللاستقبال من غير أن يكون معناه متعدّداً.
ويؤيّده قول اللغويّين: «البيع مبادلة مال بمال» فإنّ المبادلة عبارة عن إنشاءالتمليك وهو(1) في الإنشاءات اللفظيّة(2) يتحقّق باللفظ، فهذا المعنى اللغويللبيع هو الأصل في معناه الاصطلاحي حيث عرّفه الشيخ رحمهالله في المكاسب بأنّه«إنشاء تمليك عين بمال»(3).
ومراد الفقهاء أيضاً عن النكاح حيث قالوا في عنوان مباحثه: «كتابالنكاح» هو إنشاء النكاح، لا الوطي كما لا يخفى.
إن قلت: فما تقول في مثل «يعيد» و«يغتسل» ونظائرهما من الجمل الخبريّةالتي تستعمل في الإخبار والإنشاء من دون أن تكون مادّتهما إنشائيّة؟
قلت: استعمال هذه الجمل في الإنشاء ليس استعمالاً حقيقيّاً، بل كنائيّمجازيّاً، ومحلّ النزاع هو الألفاظ المستعملة في الإخبار والإنشاء بنحو الحقيقة،مثل «بعت» و«أنكحت» وسائر صيغ العقود، فإنّا نبحث عن معناها الحقيقيالشامل للإخبار والإنشاء.
- (1) أي: إنشاء التمليك. م ح ـ ى.
- (2) بخلاف المعاطاة التي يتحقّق فيها الإنشاء بالقبض والإقباض. م ح ـ ى.