ج1
فإنّ الظاهر أنّهم أرادوا موضوعات العلوم.
وهذا يدلّعلىأنّ أصلاحتياج كلّعلم إلىالموضوع كانأمراًواضحاًعندهم.
ويرد عليه أوّلاً: أنّ ملاك تمايز العلوم موضوع مختلف فيه، فإنّ جماعة منالاُصوليّين ـ منهم المحقّق الخراساني والمحقّق العراقي رحمهماالله ـ قالوا بأنّ تمايزها بتمايزالأغراض(1)، بل هنا احتمال ثالث أشار إليه في الكفاية، وهو أن يكون بتمايزالمحمولات(2).
وثانياً: لا علم لنا بأنّ احتياج العلوم إلى الموضوع عند المشهور من نتائجمسألة تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، بل القاعدة تقتضي العكس بأن يثبتوأوّلاً احتياج كلّ علم إلى موضوع خاصّ واحد، ثمّ يرتّبوا عليه كون تمايزهبتمايز الموضوعات.
وهذا لا يفيد المستدلّ كما لا يخفى.
الوجه الثالث: السنخيّة المتحقّقة بين مسائل العلوم.
إنّ سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» وإن أنكر احتياج العلوم إلىالموضوع، إلاّ أنّ له بياناً في بعض المباحث الاُخرى يستفاد منه أنّ لكلّ علمموضوعاً واحداً.
وهو أنّ مسائل كلّ علم يسانخ بعضها بعضاً، وهذه السنخيّة موجودة فيذات هذه المسائل وجوهرها، ولا سنخيّة بين مسائل علمين(3).
ألا ترى أنّ قول النحاة: «كلّ فاعل مرفوع» يسانخ قولهم: «كلّ مفعولمنصوب»، ولا يسانخ قول الاُصوليّين: «صيغة الأمر دالّة على الوجوب».
- (1) كفاية الاُصول: 22، ونهاية الأفكار 1 و 2: 11.
(صفحه22)
وبالجملة: بين جميع مسائل علم واحد سنخيّة ذاتيّة واضحة، حتّى فيما إذاستفيد بعضها من اللفظ وبعضها الآخر من العقل، كدلالة صيغة الأمر علىالوجوب، واستنتاج وجوب المقدّمة من الملازمة العقليّة بين وجوب ذيالمقدّمة ووجوبها.
ولا ارتباط بين مسألتين من علمين أصلاً.
لا يقال: لعلّ هذه السنخيّة بلحاظ الغرض الواحد المترتّب على جميعالمسائل، ولا ترتبط بذواتها.
فإنّه يُقال: إنّا إذا لاحظنا مسائل علم واحد مع قطع النظر عن الغرضالمترتّب عليها وجدناها متسانخة مترابطة، ضرورة أنّه لو لم يكن لعلم النحومثلاً غرض أصلاً، أو جهلنا به لتحقّقت السنخيّة أيضاً بين قولهم: «كلّ فاعلمرفوع» و«كلّ مفعول منصوب» وهذا كاشف عن ارتباط السنخيّة بذواتالمسائل لا بالغرض المترتّب عليها.
وهذه السنخيّة كاشفة عن وجود موضوع واحد هو ملاكها، فالمناسبةالمتحقّقة بين «كلّ فاعل مرفوع» و«كلّ مفعول منصوب»، ترشدنا إلى وجودموضوع واحد يوجب العلقة بين المسألتين، ويبحث كلّ منهما عن عوارضه،وهو الكلمة والكلام.
هذا أجود طريق لإثبات وجود الموضوع للعلوم ووحدته.
فثبت ـ حتّى الآن ـ أمران من الاُمور الثلاثة المستفادة من كلام المحقّقالخراسانى المتقدّم نقله في أوائل البحث.
تعريف موضوع العلم
وأمّا الأمر الثالث، أعني تعريف موضوع العلم: فذهب المنطقيّون إلى أنّ
ج1
موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة(1).
وتبعهم غيرهم في ذلك.
ولابدّ لنا من البحث فيما هو المراد من العرض الذاتي أوّلاً، وفي عموميّة هذالتعريف بالنسبة إلى جميع العلوم ثانياً، فنقول مستعيناً باللّه:
إنّ المنطقيّين قسّموا الكلّي إلى خمسة أقسام:
النوع، الجنس، الفصل، العرض العامّ والعرض الخاصّ.
ويعبّر عن الأخيرين بالعرض وعن الثلاثة الاُولى بالذات والذاتيّات.
والعرض كما ينقسم إلى العامّ والخاصّ(2).
ينقسم بتقسيم آخر إلى اللازم والمفارق(3).
وبتقسيم ثالث إلى الذاتي والغريب.
ولا يرتبط ببحثنا إلاّ هذا التقسيم الأخير.
وتوضيح العرض الذاتي والغريب يحتاج إلى ذكر مقدّمة:
وهي أنّ للعرض صوراً ثمانية، لأنّ عروضه على الشيء قد يكون بلواسطة، كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة(4)، وقد يكون بواسطة أمر داخلي، وهو
- (1) الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة 1: 30.
- (2) العرض الخاصّ هو الذي يختصّ بالمعروض ولا يعمّ غيره، والعامّ هو الأعمّ الشامل له ولغيره.م ح ـ ى.
- (3) العرض اللازم هو الذي يمتنع انفكاكه عن معروضه، والمفارق بخلافه، واللازم ينقسم إلى البيّنبالمعنى الأخصّ وبالمعنى الأعمّ وغير البيّن. ومن أراد تفصيل أقسام العرض اللازم والمفارق فليراجعالمنطق. م ح ـ ى.
- (4) إن قلت: زوجيّة الأربعة معلولة لانقسامها إلى متساويين.
قلت: الانقسام معنى الزوجيّة، لا علّة عروضها للأربعة، وإن أبيت إلاّ عن كونه واسطة وعلّة يمكن لنالتمثيل بنفس هذا الانقسام، فإنّ عروضه على الأربعة لا يحتاج إلى واسطة، لكونه لازماً لماهيّتها.منه مدّ ظلّه.
(صفحه24)
إمّا جنس المعروض الذي يعبّر عنه بالجزء الأعمّ، أو فصله الذي يعبّر عنهبالجزء المساوي.
ولا يمكن تصوّر جزء أخصّ للماهيّة، لأنّه يستلزم إمكان وجودها بدونهذا الجزء، وهو مستحيل.
فالعارض بواسطة الجزء الأعمّ، كعروض المشى على الإنسان لكونهحيواناً، وبواسطة الجزء المساوي كعروض العلم عليه لكونه ناطقاً(1).
وقد يكون عروضه بواسطة أمر خارج عن ماهيّة المعروض، وهو علىخمسة أنواع.
لأنّ هذا الأمر الخارج تارةً يكون مساوياً للمعروض، واُخرى أعمّ، وثالثةأخصّ ورابعة مبايناً له.
والمباين قد يكون واسطة في انتقال العرض إلى ذي الواسطة حقيقةً، وقديكون هو متّصفاً بالعرض فقط، وإسناده إلى ذي الواسطة بنحو من المجازوالعناية.
فهذه خمس صور، وأمثلتها(2) بترتيب الصور المذكورة:
1ـ الضحك العارض على الإنسان بواسطة التعجّب، فإنّ التعجّب أمرخارج عن ماهيّة الإنسان مساوٍ له بحسب المصاديق، لأنّ كلّ من يصدق عليهأنّه إنسان يصدق عليه أنّه متعجّب وبالعكس، فهما متساويان بحسب الأفراد.
2ـ التعب اللاحق للإنسان بواسطة المشي، فإنّ المشي أيضاً أمر خارج عنماهيّة الإنسان أعمّ منه بحسب المصاديق، لأنّ كلّ من صدق عليه الإنسان
- (1) فإنّ النطق الذي هو فصل للإنسان، بمعنى الإدراك للكلّيات لا التكلّم. منه مدّ ظلّه.
- (2) وإن خطر ببالك إشكال في بعض الأمثلة فهو صرف مناقشة في المثال من دون أن يضرّ بأصل المطلب.منه مدّ ظلّه.
ج1
صدق عليه الماشي، ولا عكس، إذ بعض ما صدق عليه أنّه ماش لم يصدقعليه أنّه إنسان.
3ـ البصيرة العارضة على الحيوان(1) بواسطة كونه ناطقاً، فإنّ الناطقيّة أمرخارج عن ماهيّة الحيوان(2) أخصّ منه مصداقاً، لأنّ كلّ من يصدق عليهالناطق يصدق عليه الحيوان، ولكن بعض ما صدق عليه الحيوان لم يصدقعليه الناطق.
4ـ الحرارة العارضة على الماء بواسطة النار، فإنّ النار أمر خارج عن الماء،لعدم كونها جزءاً مقوّماً له، وبينهما تباين كلّي، لعدم تصادقهما على شيء منالأشياء كما هو واضح، والنار واسطة في انتقال الحرارة إلى الماء حقيقةً، فإنّالماء بعد مجاورته لها يتّصف بأنّه حارّ واقعاً.
ويعبّر عن هذا النوع من الواسطة بالواسطة في الثبوت.
5ـ الحركة التي تعرض على الجالس في السفينة بواسطتها، فإنّ السفينة أمرخارج عن حقيقة الجالس، لعدم كونها داخلة في ماهيّته جنساً أو فصلاً،وبينهما تباين كلّي، لعدم وجود مادّة اجتماع لهما، والحركة صفة للسفينة حقيقةً،ولا يتّصف بها الجالس إلاّ بالمجاز والمسامحة.
ويعبّر عن هذا النوع من الواسطة بالواسطة في العروض.
والحاصل: أنّ العرض على ثمانية أقسام:
1ـ ما لا واسطة بينه وبين معروضه.
2ـ ما يعرضه بواسطة الجزء الأعمّ.
- (1) لصحّة قولنا: «الحيوان ذو بصيرة» بنحو القضيّة المهملة. منه مدّ ظلّه.
- (2) لا يخفى عليك أنّ الناطق وإن كان جزءً مقوّماً للإنسان، إلاّ أنّه بالنسبة إلى الحيوان أمر خارج عنه، لعدمكونه جنساً ولا فصلاً له. منه مدّ ظلّه.