وهكذا لا ريب في أنّ الإشارة والتخاطب من المعاني الحرفيّة والوجوداتالرابطة المتعلّقة بالطرفين، لتعلّق الأوّل بالمشير والمشار إليه، والثاني بالمتكلّموالمخاطب.
وكذا لا ريب في أنّ الإشارة على قسمين: عمليّة محضة، كالإشارة باليدبدون استعمال اللفظ، ولفظيّة، كالإشارة بلفظ «هذا».
لكن قال بعض الأعلام في المحاضرات: إنّ أسماء الإشارة ككلمة «هذا» أو«ذاك» لا تدلّ على معانيها إلاّ بمعونة الإشارة الخارجيّة، كالإشارة باليد أوبالرأس أو بالعين(2).
وفيه: أنّ الإشارة اللفظيّة وإن كانت مقترنة بالإشارة العمليّة غالباً، إلاّ أنّهقد تستعمل بدونها، كقول أحد المتخاصمين الحاضرين عند القاضي: «هذضربني وسبّني» من دون أن يشير باليد أوبسائر الأعضاء إلى خصمه.
على أنّ اسم الإشارة لا يختصّ بمقام التخاطب، بل قد يستعمل في الكتابة،كما في قوله تعالى: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِى لِلَّتِى هِيَ أَقْوَمُ»(3) وقوله تعالى:«ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ»(4) مع فقد الإشارة الخارجيّة هنا قطعاً.
دائماً من دون أن يحتاج الثانية إلى الاُولى لكانت الإشارة اللفظيّة تأكيدللإشارة العمليّة دائماً(1)، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين.
فالحقّ أنّ كلاًّ منهما مستقلّة لا تحتاج في الدلالة على معناها إلى الاُخرى،لكنّ الغالب تقارنهما في الاستعمال، وحينئذٍ يكون الإشارة العمليّة تأكيدللفظيّة.
المختار في ما وضعت له أسماء الإشارة
إذا عرفت هذا فنقول: لا ينبغي الإشكال في أنّ مدلول الإشارة العمليّةكحركة اليد هو حقيقة الإشارة التي من المعاني الحرفيّة المتعلّقة بالطرفين، فإذأشرت بيدك إلى زيد مثلاً يكون لنا ثلاث حقائق: المشير والمشار إليه والربطبينهما، وهذا الأخير هو مدلول حركة اليد.
فكذلك الأمر في الإشارة اللفظيّة، فإنّ الوجدان قاضٍ بعدم الفرق بينهما إلفي تحقّق الاُولى بالأعضاء والجوارح والثانية باللفظ، فالموضوع له فيها أيضحقيقة الإشارة(2) التي تكون من المعاني الحرفيّة كما كانت هي المدلول فيالإشارة العمليّة أيضاً.
ويؤيّده قول ابن مالك في ألفيّته النحويّة: «بذا لمفرد مذكّر أشر».
فإنّ الجارّ أعني «لمفرد» متعلّق بـ «أشر»، فمعناه «بذا أشر إلى مفرد مذكّر».
- (1) فإنّ المؤكِّد لا يستعمل إلاّ مقترناً بالمتأكّد، ولا عكس، ألا ترى أنّا نقول: «إنّ زيداً قائم» و«جاء زيد نفسه»و«جاء زيد زيد» ولا يمكن استعمال الألفاظ المؤكِّدة المستعملة في هذه الجمل بدون ما يتأكّد بها.
بخلاف العكس، إذ يمكن أن يقال: «زيد قائم» بدون كلمة «إنّ» أو «جاء زيد» بدون كلمة «نفسه» أو تكرار«زيد». منه مدّ ظلّه.
- (2) لا مفهومها الذي هو معنى اسمي كلّي. م ح ـ ى.
ج1
فما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من وضع مثل «هذا» للمفرد المذكّر غيرتامّ، فراجع وجدانك هل تجد أنّ النسبة بينهما هي النسبة التي بين الإنسانوالحيوان الناطق؟!
والحاصل: أنّ أسماء الإشارة وضعت لحقيقة الإشارة التي هي من المعانيالحرفيّة.
وأمّا خصوصيّة كون المشار إليه حاضراً وفي مثل «هذا» مفرداً مذكّراً فهيخارجة عن الموضوع له، لكونها من خصوصيّات المشار إليه، لا الإشارة التيهي الموضوع له.
فالمختار في المقام مخالف لما اختاره صاحب الكفاية، فإنّه ذهب إلى أنّ معنىمثل «هذا» هوالمفرد المذكّر، والإشارة خارجة عنه، وهذا عكس ما اخترناه.
إن قلت: ما ذهبت إليه لا يلائم مثل قولنا: «هذا قائم» لعدم وقوع المعنىالحرفي موضوعاً في القضيّة الحمليّة(1).
قلت: هذا وارد على الإشارة العمليّة أيضاً، لأنّا قد نشير إلى زيد مثلاً باليدبدون اللفظ ونقول عقيبه «قائم» فجعلنا نفس حركة اليد موضوعاً وقولنا:«قائم» محمولاً(2)، وقد مرّ آنفاً أنّ مدلول الإشارة العمليّة من المعاني الحرفيّة.
وحلّه أنّ هذه الاستعمالات مجازيّة بقرينة المحمول، فالمراد باسم الإشارة في
- (1) هذا الإشكال لا يرد على المحقّق الخراساني رحمهالله ، لأنّه قال بوضع كلمة «هذا» للمفرد المذكّر، وهو معنىاسمي قابل لأن يجعل موضوع القضيّة، لكن يرد عليه إشكال آخر، وهو أنّه جعل الموضوع له المفردالمذكّر بمفهومه الكلّي، مع أنّ القيام في المثال صفة مصداق من مصاديق هذا المفهوم، إلاّ أنّ وروده عليهليس بمهمّ. منه مدّ ظلّه.
ولم يبيّن الاُستاذ«مدّ ظلّه» وجه عدم الأهمّيّة، ولعلّه ما ذهب إليه المحقّق الخراساني من تحقّق التشخّصفي مقام الاستعمال وإن كان الموضوع له والمستعمل فيه عامّاً عنده. م ح ـ ى.
- (2) ومجموع هذه القضيّة يكون بمعنى «هذا قائم». م ح ـ ى.