برهان من قال بكون الإرادة دخيلةً في الموضوع له
وأهمّ ما استدلّ به الخصم أنّ إرادة اللاّفظ المعنى علّة غائيّة للوضع، والعلّةتوجب تضيّق المعلول، فالإرادة داخلة فيما وضع له اللفظ.
وتوضيحه يحتاج إلى تقديم أمرين:
أ ـ أنّ العلّة الغائيّة في الأفعال الاختياريّة وإن كانت بوجودها الخارجيمتأخّرة عن المعلول إلاّ أنّها بوجودها الذهني متقدِّمة عليه مؤثّرة فيه، بل هيأهمّ تأثيراً من سائر العلل، فإنّ كلّ فعل اختياري متوقّف على الإرادة التيمن جملة مقدّماتها التصديق بفائدته، والفائدة هي العلّة الغائيّة، فهي بوجودهالذهني علّة للأفعال الاختياريّة مؤثّرة فيها.
ب ـ أنّ كلّ معلول مضيّق بعلّته، ألا ترى أنّ الحرارة التي تحقّقت بالنار وإنكانت تسمّى الحرارة بقول مطلق، إلاّ أنّها بالنظر الدقيق هي الحرارة التيوجدت بسبب النار، فالعلّة مضيّقة للمعلول.
إذا عرفت هذين الأمرين فنقول في توضيح دعوى الخصم:
غرض الواضع من الوضع إنّما هو سهولة تفهيم المراد وتفهّمه، فإرادةالمتكلِّم المعنى دخيلة في العلّة الغائيّة للوضع، فيتضيّق الموضوع له بها، لمعرفت من تضيّق المعلول بعلّته.
نقد دليل من قال بكون الإرادة دخيلةً في الموضوع له
وفيه: أنّ سهولة التفهيم والتفهّم من نتائج العلّة الغائيّة للوضع لا نفسها،فإنّ الغرض من الوضع إيجاد علقة وضعيّة بين اللفظ والمعنى ليدلّ عليه.
نعم، يترتّب عليه سهولة التفهيم والتفهّم.
ج1
سلّمنا كونها هي الغاية، لكنّها غاية للوضع، فهو يضيَّق بها لا الموضوع له،ومعنى تضييق الوضع بها أنّ الواضع وضع اللفظ بإزاء نفس المعنى لكن فيظرف كونه مراداً للاّفظ وحينه، فالإرادة قيد للوضع لا للموضوع له.
البحث حول قول العلمين: «الدلالة تابعة للإرادة»
بقي هنا شيء: وهو أنّ العلمين الشيخ الرئيس والمحقّق الطوسي رحمهماالله ذهبا إلىأنّ الدلالة تابعة للإرادة.
فتوهّم بعضهم أنّ مرادهما كون الإرادة داخلة في الموضوع له، لأنّ معنىكلامهما أنّ الإرادة إذا كانت موجودة كان المعنى تامّاً فيدلّ اللفظ عليه، وإذا لمتكن كان ناقصاً فلا يدلّ عليه، فكلامهما يؤيّد قول من ذهب إلى أنّ الألفاظموضوعة بإزاء معانيها بما هي مرادة للافظها.
وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمهالله بأنّ لنا دلالتين: تصوّريّة وتصديقيّة، فإنّهإذا قيل: «زيد» مثلاً ينتقل الذهن إلى المعنى، سواء أراده المتكلّم أم لا، وهذهو الدلالة التصوّريّة، وله دلالة اُخرى فيما إذا أحرز أنّ المتكلّم أيضاً أرادالمعنى، فحينئذٍ يدلّ عليه أيضاً، وهذه هي الدلالة التصديقيّة، لتصديق السامعكون المعنى مراداً للمتكلّم.
والعلمان أرادا تبعيّة الدلالة التصديقيّة للإرادة، ونحن أيضاً نقول به، لكنّالموضوع له هو المدلول بمجرّد الدلالة التصوّريّة، وهي لا تتبع الإرادة عندهمأيضاً، فكلامهما لا يؤيّد قول الخصم(1).
هذا حاصل كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في توجيه كلام العلمين.