(صفحه294)
في الحقيقة الشرعيّة
الأمر التاسع
في الحقيقة الشرعيّة
اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه، وفي الكتب القديمة أبحاثطويلة حولها، لكنّ الحقّ أنّ ثبوتها يتوقّف على أمرين:
أ ـ أن يكون معاني ألفاظ العبادات(1) كالصلاة والصوم والحجّ ونحوهمستحدثة في شرعنا ولم يكن لها قبل الإسلام عين ولا أثر.
ب ـ أن يثبت نقل هذه الألفاظ من المعاني اللغويّة إلى المعاني الشرعيّة بيدالشارع المقدّس.
ولدينا اُمور تدلّ على انتقاء كلا الأمرين، لحكاية بعضها عن ثبوت هذهالمعاني قبل الإسلام وبعضها عن عدم نقل ألفاظها بيد النبيّ صلىاللهعليهوآله .
1ـ أنّ التاريخ الموجود بين أيدينا الحافظ لسيرة النبيّ صلىاللهعليهوآله وحياته وأفعالهحتّى العادي منها فضلاً عمّا له ربط بالتشريع لم يحفظ ذكراً عن وضعه صلىاللهعليهوآله هذهالألفاظ بإزاء المعاني الشرعيّة، وكذا الأئمّة عليهمالسلام الذين نقلوا كثيراً من أقواله صلىاللهعليهوآله وأفعاله لم ينقلوا وضعها بإزائها، مع أنّه لو كان لنقله الأئمّة عليهمالسلام بل التاريخ أيضاً،لكونه من الاُمور المهمّة التي توفّرت الدواعي على نقله، ولو نقله التاريخ أو
- (1) وأمّا ألفاظ المعاملات فهي مستعملة في لسان الشارع والمتشرّعة في معانيها اللغويّة. منه مدّ ظلّه.
ج1
الأئمّة عليهمالسلام لوصل إلينا، لعدم الداعي على إخفاء مثله.
بل لو كان صلىاللهعليهوآله ينقل الألفاظ من المعاني اللغويّة إلى الشرعيّة باستعمالها فيغير ما وضعت له كما إذا وضعت له(1)، لنقل في التاريخ والآثار المنقولة عنالأئمّة عليهمالسلام .
2ـ أنّ القرآن الكريم يدلّ على عدم كون هذه المعاني مستحدثة، فإنّه قال:«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ»(2)، وقال حاكياً عنعيسى عليهالسلام : «وَأَوْصَانِى بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّا»(3)، وقال لإبراهيم عليهالسلام بعد بنائه للكعبة: «وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ»(4)، بل كان للمشركين قبلالإسلام عمل كانوا يسمّونه صلاةً حيث قال سبحانه: «وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَالْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً(5) وَتَصْدِيَةً»(6).
فمعاني ألفاظ العبادات كانت متحقّقة قبل الإسلام(7) وإن لم تكن بهذهالكيفيّة التي عندنا، إلاّ أنّ المغايرة في الكيفيّة لا تقتضي المغايرة في الماهيّة، كمأنّ الصلاة الواجدة لجميع أجزائها وشرائطها مغايرة لصلاة الغريق مثلاً منحيث الكيفيّة، لا من حيث الماهيّة، فإنّ كلاًّ منهما صلاة.
- (1) توضيح ذلك: أنّ الوضع التعييني على نحوين: أحدهما: التصريح به، كأن تقول عندما رزقت ولداً:«وضعت لفظ زيد بإزاء هذا المولود» أو «سمّيته زيداً» والثاني: استعمال اللفظ في المعنى كاستعماله فيالمعنى الحقيقي، كأن تقول في المثال: «ائتوني بزيد» مريداً تسميته به، ولا يخفى أنّ كليهما من قبيلالوضع التعييني. م ح ـ ى.
- (5) «المكاء» بضمّ الميم: الصفير. و«التصدية»: التصفيق بضرب اليد على اليد. م ح ـ ى.
- (7) وإن كان يعبّر عنها بلغة غير عربيّة. منه مدّ ظلّه.
(صفحه296)
إن قلت: لعلّ النقل وقع في لسان الأنبياء قبل الإسلام.
قلت: لو ثبت هذا، لنقل إلينا، على أنّه يستلزم أن لا يترتّب على البحثفائدة أصلاً، للزوم حمل كلام اللّه تعالى والنبيّ صلىاللهعليهوآله على المعاني المنقول إليها فيلسانهم عليهمالسلام .
3ـ أنّ الوضع لو تحقّق لكان بعدما كثر المسلمون بعد الهجرة إلى المدينة،وأمّا في مكّة، ولاسيّما في أوائل البعثة فلم يعقل وضع النبيّ صلىاللهعليهوآله لفظ الصلاة مثلللعبادة المخصوصة، لقلّة الابتلاء بها بقلّة المسلمين، فالوضع كان لغواً لخلوّهعن الغرض الذي هو سهولة التفهيم والتفهّم، مع أنّه تعالى قال في سورةالمزمّل المكّيّة النازلة في أوائل البعثة: «وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ»(1) وفيسورة الأعلى المكّيّة: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى»(2) وهكذغيرهما من الآيات المكّيّة، ولا ريب في أنّ المراد بالصلاة والزكاة في هذهالآيات العبادتان المخصوصتان.
إن قلت: لعلّ القرينة تدلّ على المراد منها.
قلت: لا قرينة في البين، أمّا المقاليّة فواضح، وأمّا الحاليّة فلأنّ القرآن كتابأبدي ومعجزة خالدة، ومثله لا يحتفّ بقرينة حاليّة لا يطّلع عليها إلالموجودون حال النزول.
فذكر ألفاظ العبادات في الآيات المكّيّة يدلّ على تحقّقها قبل الإسلام.
وأمّا قوله صلىاللهعليهوآله : «صلّوا كما رأيتموني اُصلّي»(3) فهو للدلالة على كيفيّة الصلاةفي الإسلام لا على ماهيّتها.
- (3) بحار الأنوار 82 : 279، كتاب الصلاة، باب التشهّد وأحكامه.
ج1
فيستنتج من هذه الاُمور الثلاثة انهدام أساس البحث عن الحقيقةالشرعيّة.
ولكن لا بأس بصرف عنان الكلام إلى البحث عن المسألة بطريقة القوماختصاراً، سيّما أنّك ستعرف أنّه لا يخلو عن الثمرة العمليّة، فنقول:
رأي صاحب الكفاية في مسألة الحقيقة الشرعيّة
ذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى إمكان الاستعمال المحقّق للوضع ووقوعه فيلسان الشارع، فإنّه قال:
إنّ الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح بإنشائه كذلك يحصل باستعمالاللفظ في غير ما وضع له كما إذا وضع له، بأن يقصد الحكاية عنه والدلالة عليهبنفسه لا بالقرينة، وإن كان لابدّ حينئذٍ من نصب قرينة إلاّ أنّه للدلالة علىذلك لا على إرادة المعنى كما في المجاز...
إذا عرفت هذا فدعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسانالشارع هكذا قريبة جدّاً، ومدّعي القطع به غير مجازف قطعاً(1).
كلام المحقّق النائيني في الإستعمال المحقّق للوضع
واستشكل عليه المحقّق النائيني رحمهالله بأنّ الاستعمال المحقّق للوضع مستلزمللجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي في اللفظ، فإنّ اللفظ إذا استعمل فيالمعنى كان ملحوظاً بنحو التبعيّة والآليّة، إذ الملحوظ بالأصالة والاستقلال هوالمعنى المستعمل فيه حتّى كأنّه هو الملقى إلى المخاطب من دون وساطة اللفظ،
(صفحه298)
وإذا وضع للمعنى كان ملحوظاً بالأصالة والاستقلال، فالجمع بين الاستعمالوالوضع في إطلاق واحد مستلزم للجمع بين اللحاظين، وهو مستحيل(1).
ردّ كلام المحقّق النائيني من قبل المحقّق العراقي رحمهالله
وأجاب عنه المحقّق العراقي صاحب كتاب «مقالات الاُصول» رحمهالله بتعدّدمتعلّق اللحاظين، لأنّ اللحاظ الآلي متعلّق بشخص اللفظ والاستقلاليبطبيعيّه ونوعه، فإنّ الاستعمال يرتبط بشخص اللفظ الصادر من المستعمل،بخلاف الوضع، لأنّه يرتبط بنوعه من أيّ شخص صدر وفي أيّ شرائط تحقّق،ألا ترى أنّك إذا قلت: «وضعت لفظ زيد لهذا المولود» كان المراد نوع لفظ«زيد» وطبيعيّه، وأمّا إذا استعملته في المعنى بقولك: «رأيت زيداً» كانالمستعمل خصوص هذا اللفظ الصادر منك، فإذا قال الشارع: «صلّ عندرؤية الهلال» مثلاً، وأراد بلفظ الصلاة المعنى الشرعي الذي هو غير ما وضعله فرضاً، ولكنّه أراد بهذا الاستعمال تحقّق وضعه له كان المستعمل شخص هذاللفظ الصادر منه في هذا الإطلاق فقط، فتعلّق اللحاظ الآلي به، والموضوعنوعه وطبيعيّه، فتعلّق اللحاظ الاستقلالي به، فلا يتحقّق الجمع بين اللحاظينفي متعلّق واحد(2).
نقد ما أفاده المحقّق العراقي رحمهالله في المقام
وفيه: أنّ الاستعمال وإن كان مربوطاً بشخص اللفظ والوضع بنوعهفيختلف متعلّق اللحاظين، إلاّ أنّه لا يمكن في إطلاق واحد إطلاق شخص
- (1) أجود التقريرات 1: 49.
- (2) مقالات الاُصول 1: 67 و 133.