(صفحه308)
في الصحيح والأعمّ
الأمر العاشر
في الصحيح والأعمّ
اختلفوا في أنّ ألفاظ العبادات هل تكون موضوعة لخصوص الصحيحة أوللأعمّ منها ومن الفاسدة.
وقبل الخوض في أدلّة القولين يذكر اُمور:
تصحيح عنوان البحث
منها: أنّ هذا البحث مستقلّ غير متفرّع على النزاع في الحقيقة الشرعيّة،فلابدّ من أخذ عنوان فيه شامل لجميع الأقوال في ذلك البحث، وهي أربعة:
أ ـ أنّ ألفاظ العبادات وضعت للمعاني الشرعيّة بالوضع التعييني الحاصلبالتصريح أو بالاستعمال المحقّق للوضع.
ب ـ أنّها صارت حقيقةً تعيّنيّة لها.
ج ـ أنّها لم توضع لها ولم تصر حقيقةً فيها أصلاً، وإنّما استعملت فيها مجازاً.
د ـ ما نسب إلى الباقلاني من أنّها لم تستعمل في المعاني الشرعيّة أصلاً، بلاستعملت في المعاني اللغويّة والدالّ على سائر منضمّاتها قرائن خاصّة أو قرينةعامّة، مثلاً لم تستعمل الصلاة في الشريعة إلاّ في الدعاء، ويدلّ على كلّ واحد
ج1
من الركوع والسجود ونحوهما قرينة خاصّة أو على جميعها قرينة عامّة، هذههي الأقوال في مبحث الحقيقة الشرعيّة.
وحيث إنّ العنوان(1) المذكور في كلامهم لا يشمل القولين الأخيرين(2)ـ لأنّ أربابهما ينكرون الوضع رأساً، فلا يعقل أن يبحثوا في أنّها هل تكونموضوعة للصحيحة أو للأعمّ ـ غيّره صاحب الكفاية بقوله: إنّه وقع الخلاففي أنّ ألفاظ العبادات أسامٍ لخصوص الصحيحة أو الأعمّ منها(3).
وهو وإن عمّ الحقيقة التعيّنيّة التي لايصدق عليها الوضع عندنا، إلاّ أنّه ليشمل القول بالمجاز، ضرورة أنّ اللفظ إذا استعمل في معنى مجازاً بمعونة القرينةفلايصير اسماً له.
فالعنوان المذكور في الكفاية لا يشمل إلاّ القول بثبوت الحقيقة الشرعيّةتعييناً أو تعيّناً، وأمّا من أنكرها فلا مجال لدخوله في هذا البحث أصلاً، معأنّه قدسسره ذهب إلى إمكان دخوله فيه ثبوتاً بقوله: وغاية ما يمكن أن يقال فيتصويره أنّ النزاع وقع على هذا في أنّ الأصل في هذه الألفاظ المستعملة مجازفي كلام الشارع هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعمّ، بمعنى أنّ أيّهمقد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغويّة ابتداءً وقد استعمل في الآخربتبعه ومناسبته كي ينزّل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغويّةوعدم قرينة اُخرى معيّنة للآخر(4).
نعم، استشكل عليه إثباتاً بقوله: وأنت خبير بأنّه لا يكاد يصحّ هذا إلاّ إذ
- (1) وهو أنّ «ألفاظ العبادات هل تكون موضوعة لخصوص الصحيحة أو للأعمّ منها ومن الفاسدة». م ح ـ ى.
- (2) بل ولا القول الثاني بناءً على عدم صدق الوضع على الحقيقة التعيّنيّة. م ح ـ ى.
(صفحه310)
علم أنّ العلاقة إنّما اعتبرت كذلك وأنّ بناء الشارع في محاوراته استقرّ عندعدم نصب قرينة اُخرى على إرادته بحيث كان هذا قرينة عليه من غير حاجةإلى قرينة معيّنة اُخرى وأنّى لهم بإثبات ذلك(1).
وإن عبّرنا عن المسألة بـ «إنّ الأصل في استعمالات الشارع هل هو استعمالهألفاظ العبادات في خصوص الصحيحة أو الأعمّ منها»(2) شمل جميع الأقوالإلاّ قول الباقلاني المنكر للاستعمال رأساً، فإنّه يشكل جريانه فيه.
أمّا جريانه في القولين الأوّلين فواضح، وأمّا في القول الثالث فبالتقريبالمذكور في الكفاية، وهو أنّ الاستعمال وإن كان على هذا القول في كلّ واحدمن الصحيح والفاسد مجازاً، إلاّ أنّه وقع الخلاف في أنّ أيّهما هو المجاز الأصليالذي قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي، وقد استعمل في الآخر بتبعهومناسبته(3) كي ينزّل كلام الشارع عليه مع القرينة الصارفة عن المعانياللغويّة وعدم قرينة اُخرى معيّنة للآخر.
فعلى هذا لا يحتاج المعاني اللغويّة إلى قرينة أصلاً، بخلاف الشرعيّة، ولفرق بين الصحيحة والفاسدة في مقدار القرينة المحتاج إليها على القول بالأعمّ،بخلاف القول بالصحيح، فإنّ المعنى الصحيح بناءً عليه يحتاج إلى قرينة واحدةصارفة عن المعنى اللغوي، والفاسد إلى قرينتين: إحداهما صارفة، والاُخرىمعيّنة، أو إلى قرينة واحدة ذات البُعدين.
بقي الكلام في قول الباقلاني، ولا يمكن تصوير النزاع في المقام على قولهبلحاظ أصل اللفظ، ولا بلحاظ القرائن الدالّة على سائر المنضمّات من الأجزاء
- (2) سيأتي إصلاح آخر لعنوان النزاع، وهو تبديل كلمة «الصحيحة» بـ «تامّة الأجزاء والشرائط». م ح ـ ى.
- (3) وهذا يسمّى بسبك المجاز من المجاز. منه مدّ ظلّه.
ج1
والشرائط لو كان لكلّ جزء أو شرط قرينة خاصّة، كما إذا قال: صلِّ وكبِّرواركع واسجد و...
نعم، لو كان الدالّ على جميع الأجزاء والشرائط قرينة واحدة عامّة ـ كما إذقال: صلِّ وائت بسائر الأجزاء والشرائط ـ لأمكن تصوير النزاع على قولهأيضاً، بأن يقال: إنّ قضيّة القرينة هل هي تمام الأجزاء والشرائط أو هما فيالجملة؟
معنى الصحّة والفساد
ومنها: أنّه ذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى أنّ الصحّة عند الكلّ بمعنى واحد،وهو التماميّة، وتفسيرها بإسقاط الإعادة والقضاء كما عن الفقهاء، أو بموافقةالأمر أو الشريعة كما عن المتكلِّمين، أو غير ذلك(1)، إنّما هو بالمهمّ لكلّ منهممن الأثر، لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الأنظار، فلمّا كان غرض الفقيه هووجوب القضاء أو الإعادة أو عدم الوجوب فسّر صحّة العبادة بسقوطهما،وكان غرض المتكلّم هو حصول الامتثال الموجب عقلاً لاستحقاق المثوبةفسّرها بما يوافق الأمر تارةً وبما يوافق الشريعة اُخرى، وهذا لا يوجب تعدّدالمعنى، كما لا يوجبه اختلافها بحسب الحالات من السفر والحضر والاختياروالاضطرار إلى غير ذلك كما لا يخفى، ومنه ينقدح أنّ الصحّة والفساد أمرانإضافيّان، فيختلف شيء واحد صحّةً وفساداً بحسب الحالات، فيكون تامّبحسب حالة وفاسداً بحسب اُخرى(2).
وهو رحمهالله وإن لم يبيّن معنى الفساد إلاّ أنّ مقتضى كلامه أن يكون بمعنى
- (1) كتفسيرها بالسلامة واعتدال المزاج كما عن الأطبّاء. منه مدّ ظلّه.
- (2) كفاية الاُصول: 39 و 220.
(صفحه312)
النقصان، لأنّه مقابل للتماميّة التي فسّر بها الصحّة، فالصحّة والتماميّة عندهمترادفتان وكذلك الفساد والنقصان.
وفيه أوّلاً: أنّ التقابل بين التماميّة والنقصان تقابل العدم والملكة، فإنّالناقص هو الذي من شأنه أن يكون تامّاً ولكنّه بالفعل غير تامّ، كما يقالللإنسان الذي له رجل واحدة: إنّه ناقص، لأنّ من شأنه أن يكون ذا رجلين.
مع أنّ التقابل بين الصحّة والفساد تقابل التضادّ، لكون الفساد أمراً وجوديّكالصحّة، ولذا إذا قيل: هذا التفّاح فاسد، يصحّ السؤال بأنّه أين فساده؟ مع أنّهلو كان أمراً عدميّاً لم يصحّ هذا السؤال، لعدم إمكان إرائته ولا رؤيته.
وثانياً: أنّ موارد استعمالهما مختلفة عرفاً، فإنّه يقال للأعمى مثلاً: إنّه ناقص،ولا يقال له: إنّه فاسد، وينعكس الأمر في التفّاح الفاسد وغيره من الثمرات.
فيعلم من هذين الأمرين أنّ الصحّة لا تكون مرادفةً للتماميّة ولا الفسادمرادفاً للنقصان.
والمستفاد من الاستعمالات العرفيّة وتعبيرات العلوم أنّ التماميّة والنقصانيستعملان في موردين:
الأوّل: الشيء المركّب، فإنّه لو كان واجداً لجميع أجزائها يقال: إنّه تامّوكامل، ولو كان فاقداً لبعضها يقال: إنّه ناقص.
الثاني: الشيء البسيط المشكّك بلحاظ مراتبه المختلفة كما أشار إليه سيّدنالاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه»(1)، كالوجود، حيث يطلق التماميّة والكمال علىمرتبته العالية، وهي وجود الواجب، والنقص على مرتبته النازلة، وهي وجودالممكن، فيقال: وجود الواجب تامّ، ووجود الممكن ناقص، ولا يقال: وجود