ج1
للصحيح أن يتمسّك بالإطلاق، وذلك للشكّ في صدق المفهوم على الفاقد لميحتمل دخله في المسمّى، وأمّا الإطلاق المقامي فلا يعتبر فيه ذلك، بل المعتبرفيه سكوت المتكلِّم عن البيان في مقام عدّ الأجزاء والشرائط، أو الأفراد، مثلإذا كان المولى في مقام بيان ما يحتاجه اليوم من اللحم، والخبز، والاُرز، واللبن،وغيرها من اللوازم، فأمر عبده بشرائها، ولم يذكر الدهن مثلاً، فبما أنّه كان فيمقام البيان ولم يذكر ذلك فيستكشف منه عدم إرادته له، وإلاّ لبيّنه، ولا نحتاجفي هذا النحو من الإطلاق إلى وجود لفظ مطلق في القضيّة، والإطلاق فيالصحيحة من هذا القبيل، فإنّه عليهالسلام كان في مقام بيان أجزاء الصلاة، فكلّما لميبيّنه نستكشف عدم دخله فيها.
والحاصل: أنّ أحد الإطلاقين أجنبيّ عن الإطلاق الآخر رأساً، وجوازالتمسّك بأحدهما لا يستلزم جواز التمسّك بالآخر، فلا فرق في جواز الأخذبالإطلاق المقامي بين القائل بالصحيح والقائل بالأعمّ، وأمّا الإطلاق اللفظيفلا يجوز التمسّك به إلاّ للقائلين بالأعمّ، فلا يرد هذا الإشكال على هذه الثمرة.
2ـ أنّه ليس في الكتاب والسنّة إطلاق يحتجّ به، لأنّ أدلّة العبادات الواردةفيهما كلّها مجملة، إذ لم يرد شيء منها في مقام البيان.
وأجاب عنه بعضهم بأنّ غاية ما يقتضيه هذا الإشكال عدم المصداق لهذهالثمرة، لا عدم ترتّبها على النزاع.
وفيه: أنّه كيف يمكن رمي الأكابر بصرف العمر في هذا البحث الطويلالذيل، مع عدم ترتّب ثمرة فعليّة عليه، لمجرّد الثمرة الفرضيّة.
نعم، يمكن أن يُجاب عنه أوّلاً: بأنّ دعوى إجمال جميع أدلّة العبادات فيالكتاب والسنّة مكابرة، لعدم صحّة هذه الدعوى إلاّ بعد إمعان النظر في جميع
(صفحه352)
الآيات والروايات، وهذا ممّا لا يقدر عليه فرد واحد، بل يستحيل عليه عادةً،ومجرّد إجمال لفظ «الصلاة» في جميع موارد استعمالها في الكتاب لا يدلّ علىإجمال جميع ألفاظ العبادات الواردة في الكتاب والسنّة.
وثانياً: بأنّها ممنوعة بوجود الإطلاق في آية الوضوء، وهي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَآمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوبِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»(1) فإنّ كلاًّ من الغسل والمسح مطلق يشملالبدء من الأعلى إلى الأسفل وبالعكس، وفي آية التيمّم، وهي: «فَتَيَمَّمُوصَعِيدا طَيِّبا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ»(2)، وفي آية الصوم، وهي: «يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ»(3).
3ـ أنّ النزاع بين الصحيحي والأعمّي إنّما هو في مقام الوضع والتسمية، لفي مقام تعلّق الأمر، فإنّ الأعمّي أيضاً قائل بكون الأمر متعلّقاً بالصحيح،وهذا مورد التمسّك بالإطلاق لا مقام التسمية والوضع، فكما أنّ الصحيحي ليتمكّن من التمسّك بالإطلاق لرفع جزئيّة ما شكّ في جزئيّته، كذلك لا يتمكّنالأعمّي منه؛ لاشتراكهما في كونه تمسّكاً بالإطلاق في الشبهة المصداقيّة لنفسالمطلق.
والجواب عنه: أنّ الأعمّي وإن قال بأنّ المأمور به هو خصوص الصحيح،إلاّ أنّه لا يريد به أنّ الصلاة استعملت في قوله تعالى: «أَقِيمُوا الصَّلاَةَ»(4) مثلفي خصوص الصلاة الصحيحة مجازاً، لكونه من قبيل استعمال اللفظ الموضوع
ج1
للعامّ في الخاصّ، ولا أنّ وصف الصحّة تكون محذوفة، حتّى يكون تقديرالآية: «أقيموا الصلاة الصحيحة»، فإنّه لا ينبغي أن يتفوّه به جاهل فضلاً عنعالم فاضل. بل يريد أنّها استعملت في مسمّاها وهو الأركان الخمسة(1) مثلاً،وما دلّ على سائر الأجزاء والشرائط مقيّد لها مبيّن للإرادة الجدّيّة، وبعبارةاُخرى: تقييد المطلق لا يوجب إلاّ تضيّق الإرادة الجدّيّة، فإذا قال المولى فيخطاب: «أعتق رقبةً» وفي خطاب آخر: «لا تعتق رقبةً كافرة» استعملالخطاب الأوّل في مطلق الرقبة بعنوان قانون كلّي قابل للتمسّك به عند الشكّفي أصل التقييد أو في التقييد الزائد، والخطاب الثاني لا يضيّق إلاّ المراد الجدّيمن الخطاب الأوّل، وأمّا المراد الاستعمالي فباقٍ على إطلاقه ويتمسّك به فيما إذشكّ في دخل قيد آخر في المأمور به.
وما نحن فيه في نظر الأعمّي من هذا القبيل، إذ تعلّق الإرادة الاستعماليّة فيقوله تعالى: «أَقِيمُوا الصَّلاَةَ» بمطلق الصلاة التي هي الأركان الخمسة مثلاً،وقوله عليهالسلام : «لا صلاة إلاّ بطهور»(2) و«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(3) ونحوهممضيّق للإرادة الجدّيّة لا الإرادة الاستعماليّة، فإذا شكّ في القيد الزائد تمكّنالأعمّي من التمسّك بإطلاق قوله: «أَقِيمُوا الصَّلاَةَ»، ولا ينافيه القول بكونالمأمور به خصوص الصلاة الصحيحة.
- (1) فإنّ بعضهم قالوا بكون الجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة هو الأركان. م ح ـ ى.
- (2) وسائل الشيعة 1: 366، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 6.
- (3) مستدرك الوسائل 4: 158، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القرائة في الصلاة، الحديث 5.
(صفحه354)
في أدلّة القول بالصحيح
أدلّة القول بالصحيح
قد استدلّ للصحيحي بوجوه ذكرها في الكفاية:
في التبادر وصحّة السلب عن الفاسد
منها: التبادر، ودعوى أنّ المنسبق إلى الأذهان من ألفاظ العبادات هوالصحيح، ولا منافاة بين دعوى ذلك وبين كون الألفاظ على هذا القولمجملات، فإنّ المنافاة إنّما تكون فيما إذا لم يكن معانيها على هذا الوجه مبيّنةأصلاً، وقد عرفت كونها مبيّنة بآثارها(1).
وأورد عليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بأنّ للماهيّة في وعاءتقرّرها تقدّماً على لوازمها وعلى الوجود الذي هو مظهر لها، كما أنّها متقدّمةعلى لوازم الوجود بمرتبتين، لتوسّط الوجود بينها وبين لوازم الوجود، وإذأضفت ذلك إلى ما قد علمت سابقاً من أنّ النهي عن الفحشاء وكونها معراجالمؤمن وما أشبههما من لوازم الوجود لا من آثار الماهيّة، لعدم كونها منشلتلك الآثار في حدّ نفسها، تعرف أنّه لا وجه لهذا التبادر أصلاً، لأنّ تلكالعناوين كلّها في مرتبة متأخّرة عن نفس المعنى الماهوي الموضوع له، بل لو
ج1
قلنا: إنّها من عوارض الماهيّة أو لوازمها كانت أيضاً متأخّرة عنه، فمع ذلككيف يمكن دعوى تبادرها من لفظ الصلاة مثلاً.
والخلاصة: أنّ مدّعي التبادر للصحيح لابدّ أن يتصوّر معنى ويعيّن لهعنواناً يساوق الصحيح في ظرف التبادر، حتّى يدّعي أنّ المتبادر هو الصحيح،وما ذكروه وإن كان ممّا يساوقه، إلاّ أنّه ليس ممّا يخطر بباله في وعائه، بل بعدهبرتبتين، فالموضوع له يبقى مجهول العنوان والحقيقة في وعاء التبادر من جميعالجهات، ووضوح حقيقته في رتبتين بعده لا يصحّح أمر التبادر، إذ للأعمّي أنيدّعي أنّ الصلاة المعرّفة بهذه العناوين قسم من المسمّى.
ومن ذلك يعرف حال صحّة السلب عن الفاسد(1)، إذ لا يخلو إمّا أن يصحّسلب لفظ الصلاة مثلاً عن تلك الماهيّة بلا معرّفيّة هذه العناوين المتأخّرة وإمّبمعونتها، والأوّل باطل، إذ هي مع قطع النظر عنها مجهولة الكنه غير معلومةالمعنى على الفرض، فكيف يسلب المجهول بما هو مجهول عن شيء، والثانيأيضاً مثله، إذ تعريفها بهذه الآثار يساوق تقييدها بالصحّة الفعليّة، فيرجع إلىصحّة سلب الصلاة الصحيحة عن الفاسدة، وهي ممّا لا يقبل الإنكار.
والحاصل: أنّ صحّة سلب المعنى بما هو هو ممّا لا يمكن الوصول إليه للجهلبه، وسلب المعنى بمعرّفيّة هذه الاُمور بعد فرض كونها معرّفات للصحيح غيرمفيد أصلاً.
وتوهّم أنّ تلك العناوين اُخذت ظرفاً لا قيداً قد مرّ ما فيه، إذ غاية الأمرعدم أخذها قيداً، إلاّ أنّها في هذه الحالة لا تنطبق إلاّ على الصحيح، ولا فائدة
- (1) قال المحقّق الخراساني رحمهالله في عداد أدلّة الصحيحي: ثانيها: صحّة السلب عن الفاسد بسبب الإخلالببعض أجزائه أو شرائطه بالمداقّة وإن صحّ الإطلاق عليه بالعناية. كفاية الاُصول: 45.