ج1
ولا إلى الثالث، ضرورة أنّ الماهيّة بما هي ماهيّة ليست مطلوبة،بل المطلوب إيجادها في الخارج، ألا ترى أنّ المولى إذا قال لعبده: اسقنيالماء، لا يريد ماهيّة الماء بل وجوده، لأنّ غرض المولى من هذا الأمررفع عطشه، ولا يمكن الوصول إلى هذا الغرض إلاّ بالماء الموجودفي الخارج.
وهذا الإشكال يتوجّه على الأحكام التكليفيّة، وإن كان المراد من عوارضالموضوع أوصافه ومحمولاته، لعدم صحّة حمل الوجوب مثلاً على الصلاة بأيّوجه من الوجوه.
لكن يمكن الجواب بأنّا نختار الشقّ الثالث ونقول: متعلّق الوجوب هوماهيّة الصلاة، لكنّ الوجوب عبارة عن البعث إلى إيجاد الشيء.
وبعبارة اُخرى: بين قولنا: «ماهيّة الصلاة مطلوبة» و«ماهيّةالصلاة واجبة» فرق، وهو أنّ الأوّل لايدلّ على الوجود والإيجاد، فيتوجّهالإشكال عليه بأنّ ماهيّة الصلاة متى كانت مطلوبة للمولى مع أنّها فاقدةلغرضه؟!
بخلاف الثاني، فإنّ معناه أنّ «ماهيّة الصلاة مطلوب وجودها».
والحاصل: أنّ المراد بالعوارض في تعريف موضوع العلوم مطلق المحمولاتوالأوصاف، وبالعرض الذاتي ما ذهب إليه المحقّق الخراساني والحكيمالسبزواري ونقل عن صدر المتألّهين، أي ما يلحق الشيء بلا واسطة فيالعروض، فيشمل سبعاً من الصور الثمانية المتقدِّمة للعرض.
إلى هنا إنتهى البحث عن احتياج العلوم إلى الموضوع، ووحدته، وتعريفه،وينبغي البحث عن أمر رابع، وهو:
(صفحه38)
النسبة بين موضوع العلم وموضوعات مسائله
نظريّة المشهور والمحقّق الخراساني في المقامفي النسبة بين موضوع العلم وموضوعات مسائله
ذهب المشهور إلى أنّ موضوع العلم هو الجامع بين موضوعات مسائله كمتقدّم(1)، واختاره المحقّق الخراساني رحمهالله حيث قال: إنّ موضوع كلّ علم ـ وهوالذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة، أي بلا واسطة في العروض ـ هو نفسموضوعات مسائله عيناً وما يتّحد معها خارجاً، وإن كان يغايرها مفهومتغاير الكلّي ومصاديقه والطبيعي وأفراده(2).
فموضوع علم النحو مثلاً هو الكلمة والكلام، والفاعل الذي هو موضوعمسألة «كلّ فاعل مرفوع» مصداق للكلمة.
نقد نظريّة المشهور والمحقّق الخراساني رحمهالله
وفيه: أنّ موضوع العلم وموضوع المسائل أمر واحد في بعض العلوم،كالعرفان، فإنّ موضوعه وكذلك موضوع مسائله هو اللّه سبحانه وتعالى.
والنسبة بينهما في بعض آخر من العلوم عموم من وجه، كالاُصول، فإنّموضوعه «الأدلّة الأربعة» أو «الحجّة في الفقه»، ونحن نبحث فيه مثلاً عن أنّ«صيغة الأمر هل تدلّ على الوجوب أم لا؟»، وهذا البحث لا يختصّ بالأوامرالقرآنيّة والروائيّة، بل يعمّ أوامر الموالي العرفيّة أيضاً.
والكتاب والسنّة لا يختصّان بصيغة الأمر، بل بعض ما صدق عليه أنّه
- (1) راجع مبحث احتياج العلوم إلى الموضوع. م ح ـ ى.
ج1
قرآن أو سنّة لا يكون أمراً، فبين صيغة الأمر وكلّ واحد منهما عموم منوجه. بل نسبة موضوع بعض العلوم إلى موضوعات مسائله على رأيالإمام«مدّ ظلّه» هي نسبة الكلّ إلى أجزائه، كالجغرافيا.
والحقّ أن يقال في المقام: إنّك قد عرفت أنّ مسائل كلّ علم يسانخ بعضهبعضاً، وهذه السنخيّة موجودة في ذات هذه المسائل وجوهرها، ولا سنخيّةبين مسائل علمين، وهذه السنخيّة كاشفة عن وجود موضوع واحد يوجبالعلقة بين مسائل العلم.
فموضوع العلم له نحو ارتباط بموضوعات المسائل، لكن لا يجب أن يكونهذا الارتباط في جميع العلوم على نسق واحد، فيمكن أن يكون في بعضهبنحو الطبيعي والأفراد، وفي بعض آخر بنحو العينيّة، وفي بعض ثالث بنحوالكلّ والأجزاء، وهكذا.
هذا تمام الكلام في المباحث المربوطة بموضوع العلم.
(صفحه40)
في تمايز العلوم
المقام الثاني: في تمايز العلوم
لا ريب ولا خلاف في أنّ لنا علوماً متعدّدة متغايرة، لكنّهم اختلفوا فيملاك تمايزها الذي هو منشأ تكثّرها إلى أقوال:
1ـ نظريّة المشهور في المقام
ذهب المشهور إلى أنّ تمايزها بتمايز الموضوعات.
والظاهر أنّ مرادهم موضوعات العلوم لا موضوعات المسائل.
فعلم الفقه مثلاً يمتاز عن علم النحو بأنّ موضوع الأوّل فعل المكلّفوموضوع الثاني هو الكلمة والكلام.
واُورد عليهم بأنّه يستلزم اتّحاد علم النحو والصرف والبلاغة، إذ الموضوعفي الجميع هو الكلمة والكلام(1).
واُجيب عنه بأنّ الكلمة والكلام من حيث الإعراب والبناء موضوعالنحو، ومن حيث الصحّة والاعتلال موضوع الصرف، ومن حيث الفصاحةوالبلاغة موضوع المعاني والبيان، فتتغاير موضوعات هذه العلوم الثلاثة
- (1) إن قلت: تعدّد الموضوع في هذه العلوم الثلاثة يغاير ما تقدّم من وحدة موضوع العلم.
قلت: موضوع هذه العلوم في الواقع هو القدر الجامع بين الكلمة والكلام، أعني: اللفظ العربيالمستعمل، سواء كان بصورة الكلمة أو الكلام. منه مدّ ظلّه.
ج1
بتعدّد الحيثيّات.
ولجمع من الفلاسفة المحقّقين نكتة لطيفة على ما نقله المحقّق الاصفهاني فيحاشيته(1) على الكفاية، وهي أنّ قول النحاة: «موضوع علم النحو هو الكلمةوالكلام من حيث الإعراب والبناء» ليس بمعنى: من حيث كونهما معربينبالفعل، بل يكون بمعنى: من حيث كونهما قابلين لورود الإعراب عليهما، وإللكانت مسائل النحو من قبيل الضروريّة بشرط المحمول، ضرورة أنّ قولنا:«الفاعل مرفوع» بناءً على الأوّل يكون بمعنى: «الفاعل المعرب بإعراب الرفعيكون مرفوعاً» وأمّا بناءً على الثاني يكون بمعنى: «الفاعل الذي هو قابللورود الإعراب عليه يكون مرفوعاً»، وهذا هو المعنى الصحيح لا الأوّل.
وبه تبيّن فساد عدول بعضهم عمّا ذهب إليه المشهور من كون موضوع علمالنحو هو الكلمة والكلام إلى كونه هو المعرب والمبني، فراراً عن إشكالمتوجّه إلى المشهور.
وجه الفساد: أنّ الفاعل فرد من أفراد المعرب، والمراد به المعرب بالفعل،فقولنا: «الفاعل مرفوع» يكون على هذا بمعنى: الفاعل المعرب بالفعل بإعرابالرفع يكون مرفوعاً.
نقد كلام المشهور في تمايز العلوم
ويرد على كلام المشهور أنّ دليلهم ومبناهم في إثبات وحدة موضوع العلميقتضي أن يكون التمايز بالأغراض لا بالموضوعات.
توضيح ذلك: أنّهم لم يصلوا إلى إثبات وحدة الموضوع للعلوم إلاّ من