(صفحه40)
في تمايز العلوم
المقام الثاني: في تمايز العلوم
لا ريب ولا خلاف في أنّ لنا علوماً متعدّدة متغايرة، لكنّهم اختلفوا فيملاك تمايزها الذي هو منشأ تكثّرها إلى أقوال:
1ـ نظريّة المشهور في المقام
ذهب المشهور إلى أنّ تمايزها بتمايز الموضوعات.
والظاهر أنّ مرادهم موضوعات العلوم لا موضوعات المسائل.
فعلم الفقه مثلاً يمتاز عن علم النحو بأنّ موضوع الأوّل فعل المكلّفوموضوع الثاني هو الكلمة والكلام.
واُورد عليهم بأنّه يستلزم اتّحاد علم النحو والصرف والبلاغة، إذ الموضوعفي الجميع هو الكلمة والكلام(1).
واُجيب عنه بأنّ الكلمة والكلام من حيث الإعراب والبناء موضوعالنحو، ومن حيث الصحّة والاعتلال موضوع الصرف، ومن حيث الفصاحةوالبلاغة موضوع المعاني والبيان، فتتغاير موضوعات هذه العلوم الثلاثة
- (1) إن قلت: تعدّد الموضوع في هذه العلوم الثلاثة يغاير ما تقدّم من وحدة موضوع العلم.
قلت: موضوع هذه العلوم في الواقع هو القدر الجامع بين الكلمة والكلام، أعني: اللفظ العربيالمستعمل، سواء كان بصورة الكلمة أو الكلام. منه مدّ ظلّه.
ج1
بتعدّد الحيثيّات.
ولجمع من الفلاسفة المحقّقين نكتة لطيفة على ما نقله المحقّق الاصفهاني فيحاشيته(1) على الكفاية، وهي أنّ قول النحاة: «موضوع علم النحو هو الكلمةوالكلام من حيث الإعراب والبناء» ليس بمعنى: من حيث كونهما معربينبالفعل، بل يكون بمعنى: من حيث كونهما قابلين لورود الإعراب عليهما، وإللكانت مسائل النحو من قبيل الضروريّة بشرط المحمول، ضرورة أنّ قولنا:«الفاعل مرفوع» بناءً على الأوّل يكون بمعنى: «الفاعل المعرب بإعراب الرفعيكون مرفوعاً» وأمّا بناءً على الثاني يكون بمعنى: «الفاعل الذي هو قابللورود الإعراب عليه يكون مرفوعاً»، وهذا هو المعنى الصحيح لا الأوّل.
وبه تبيّن فساد عدول بعضهم عمّا ذهب إليه المشهور من كون موضوع علمالنحو هو الكلمة والكلام إلى كونه هو المعرب والمبني، فراراً عن إشكالمتوجّه إلى المشهور.
وجه الفساد: أنّ الفاعل فرد من أفراد المعرب، والمراد به المعرب بالفعل،فقولنا: «الفاعل مرفوع» يكون على هذا بمعنى: الفاعل المعرب بالفعل بإعرابالرفع يكون مرفوعاً.
نقد كلام المشهور في تمايز العلوم
ويرد على كلام المشهور أنّ دليلهم ومبناهم في إثبات وحدة موضوع العلميقتضي أن يكون التمايز بالأغراض لا بالموضوعات.
توضيح ذلك: أنّهم لم يصلوا إلى إثبات وحدة الموضوع للعلوم إلاّ من
(صفحه42)
طريق وحدة الغرض المترتّب على كلّ علم كما عرفت(1).
وهذا الدليل وإن كان مردوداً عندنا، وقد عرفت وجوه المناقشة فيه(2) إلأنّه يستلزم أن يكون تمايز العلوم بتمايز الأغراض، لأنّ العلم بوحدة الموضوعناشٍ عن العلم بوحدة الغرض عندهم، ولا وجه للعدول من المنشأ إلىالناشئ.
لا يقال: لعلّ الوجه فيه كون الغرض معلولاً، والموضوع علّةً له عندهم،لأنّ الغرض مترتّب على مسائل العلم، والمسألة وإن كانت متشكّلة منالموضوع والمحمول والنسبة، إلاّ أنّ المحمول عارض متأخّر عن الموضوع، فليصلح للتأثير في الغرض مع وجود الموضوع الذي هو معروض متقدّم،والنسب معانٍ حرفيّة غير مستقلّة أوّلاً، ومتأخّرة عن الموضوع والمحمولثانياً.
فلا يصلح للتأثير في الغرض إلاّ موضوعات المسائل(3).
فوجه عدولهم من الغرض إلى الموضوع هو علّيّة الموضوع للغرض.
وبعبارة اُخرى: الاستدلال لإثبات الموضوع ووحدته بوحدة الغرض إنّمهو من قبيل البرهان الإنّي الذي نصل فيه من المعلول إلى العلّة، لا اللمّي الذينصل فيه من العلّة إلى المعلول، وعلى هذا فلا وجه لنسبة التمايز إلى الغرضالذي هو معلول، بل لابدّ من ربطه بالعلّة، وهي الموضوع.
فإنّه يُقال: الغرض وإن كان معلولاً إلاّ أنّه أوضح من الموضوع الذي هو
- (3) نحن الآن نمشي على مبنى المشهور، وإلاّ فلم نسلّم كون الغرض مترتّباً على الموضوع، كما عرفتتوضيحه في مسألة احتياج العلم إلى الموضوع ووحدته ص21. منه مدّ ظلّه.
ج1
علّته، إذ العلم بالغرض ووحدته أوجب العلم بالموضوع ووحدته، وإذا دارالأمر فيما ينسب إليه التمايز بين الأثر الأجلى والمؤثّر الأخفى فلا ريب في تعيّنالأوّل.
إشكال المحقّق الخراساني رحمهالله على المشهور
والمحقّق الخراساني رحمهالله تخيّل أنّ المشهور أرادوا بالموضوعات في قولهم:«تمايز العلوم بتمايز الموضوعات» موضوعات المسائل، حيث قال: وقد انقدحبذلك أنّ تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين، لالموضوعات ولا المحمولات، وإلاّ كان كلّ باب بل كلّ مسألة من كلّ علم علمعلى حدة، كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمّل(1).
فإنّه أراد بقوله: «لا الموضوعات» نفي كلام المشهور، وبقرينة عطفهالمحمولات عليها نفهم أنّ مراده منها موضوعات المسائل، إذ لا يمكن أن يرادمن المحمولات إلاّ محمولاتها.
وذيل كلامه المذكور قرينة اُخرى على حمله كلام المشهور على موضوعاتالمسائل، إذ لا يلزم من كلام المشهور كون كلّ باب من كلّ علم علماً على حدةإلاّ إذا أرادوا أنّ تمايز العلوم بتمايز موضوعات المسائل كما هو واضح.
وبالجملة: في كلام المحقّق الخراساني رحمهالله قرينتان على حمله كلام المشهورعلى إرادة موضوعات المسائل كما عرفت، وعلى هذا الأساس استشكلعليهم بأنّ قولهم يستلزم كون كلّ باب بل كلّ مسألة من كلّ علم علماً علىحدة.
(صفحه44)
وتوضيح إيراده: أنّ موضوعات ومحمولات المسائل المربوطة بعلم واحدمتغايرة، فانظر إلى علم النحو مثلاً، فإنّ قولنا: «كلّ فاعل مرفوع» مسألةنحويّة، و«كلّ مفعول منصوب» مسألة نحويّة اُخرى، و«كلّ مضاف إليهمجرور» مسألة نحويّة ثالثة، وتغاير الموضوعات والمحمولات في هذه المسائلالثلاث أمر واضح، فلو كان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات أو المحمولات لكانكلّ واحدة من هذه المسائل الثلاث علماً مستقلاًّ.
جواب إشكال المحقّق الخراساني على المشهور
لكنّك عرفت أنّ ظاهر كلام المشهور أنّ تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها،فيمتاز كلّ واحد من علم النحو والفقه والاُصول عن صاحبيه بأنّ موضوعالأوّل هو الكلمة والكلام، وموضوع الثاني فعل المكلّف، وموضوع الثالثالأدلّة الأربعة أو الحجّة في الفقه، فهي علوم متغايرة لأجل تغاير موضوعاتها.
فلا يرد عليهم ما أورده المحقّق الخراساني رحمهالله .
نعم، هو وارد على القول بكون التمايز بتمايز المحمولات، لكونها متعيّنةً فيمحمولات المسائل بكثرتها من دون أن يراد انتزاع جامع منها وتسميته باسمخاصّ، كما فعله المشهور في ناحية الموضوعات، حيث انتزعوا منموضوعات المسائل جامعاً سمّوه باسم مخصوص وجعلوه ملاك التمايز فيالعلوم.
لكنّ الظاهر أنّ تمايز العلوم بتمايز المحمولات مجرّد احتمال ذكر في كلام المحقّقالخراساني، ولا قائل له.
وعلى أيّ حال لا يصحّ جعل تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها، ولا بتمايزموضوعات المسائل أو محمولاتها.