(صفحه452)
السابع: فيما يقتضيه الأصل في المقام
كلام صاحب الكفاية فيه
قال المحقّق الخراساني رحمهالله : إنّه لا أصل في نفس هذه المسألة يعوّل عليه عندالشكّ، وأصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة مع معارضتها(1) بأصالة عدمملاحظة العموم لا دليل(2) على اعتبارها في تعيين الموضوع له(3)، إنتهى.
هذا بالنسبة إلى المسألة الاُصوليّة.
ثمّ إنّه رحمهالله قال في مقام تعيين الوظيفة العمليّة في الفروع الفقهيّة:
وأمّا الأصل العملي فيختلف في الموارد، فأصالة البراءة في مثل «أكرم كلّ
- (1) لأنّ الخاصّ وإن لم يكن بحسب المصداق مبايناً للعامّ، بل هو هو مع خصوصيّة زائدة، ولذا نقول:«النسبة بينهما هي العموم والخصوص مطلقاً» إلاّ أنّه مباين له بحسب المفهوم، لأنّ المفاهيم كلّها في حدّمفهوميّتها متباينات، فلا يمكن القول بأنّ الخاصّ هو العامّ مع زيادة مشكوكة في المقام، فتجري فيهأصالة العموم. منه مدّ ظلّه في توضيح كلام صاحب الكفاية رحمهالله .
- (2) أمّا بناء العقلاء فلعدم ثبوت بنائهم على أصالة العدم في جميع موارد الشكّ في الوجود. نعم، يمكندعوى ثبوت بنائهم في بعضها، مثل الشكّ في وجود قرينة المجاز.
وأمّا الاستصحاب فلعدم جواز التمسّك به في المقام إلاّ على القول بالأصل المثبت، لأنّه ليس عدملحاظالخاصّ أمراً مجعولاً ولا له أثر مجعول. نعم، له لازم عقلي، وهو ملاحظة العموم. منه مدّ ظلّه فيتوضيح كلام صاحب الكفاية رحمهالله .
ج1
عالم» يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدء قبل الإيجاب، كما أنّقضيّة الاستصحاب وجوبه لو كان الإيجاب قبل الانقضاء(1)، إنتهى.
نقد نظريّة صاحب الكفاية في المسألة
وأورد عليه بعض الأعلام بأنّ الاستصحاب لا يجري في الفرض الأخيرأيضاً، وأنّه مجرى أصالة البراءة كالأوّل، لعدم جريان الاستصحاب في الشبهةالمفهوميّة لا حكماً ولا موضوعاً، كما ذهب إليه شيخنا الأنصاري رحمهالله في أواخرالاستصحاب من رسائله.
أمّا الأوّل ـ وهو استصحاب بقاء الحكم ـ فلاعتبار وحدة القضيّة المتيقّنةمع المشكوك فيها موضوعاً ومحمولاً في جريان الاستصحاب، ضرورة أنّه ليصدق نقض اليقين بالشكّ مع اختلاف القضيّتين موضوعاً أو محمولاً، وحيثإنّ في موارد الشبهات المفهوميّة لم يحرز الاتّحاد بين القضيّتين لا يمكن التمسّكبالاستصحاب الحكمي، فإذا شكّ في بقاء وجوب صلاة العصر، أو الصوم بعداستتار القرص وقبل ذهاب الحمرة المشرقيّة عن قمّة الرأس(2) من جهة الشكّفي مفهوم المغرب، وأنّ المراد به هو الاستتار أو ذهاب الحمرة؟ فعلى الأوّلكان الموضوع وهو «جزء النهار» منتفياً، وعلى الثاني هو كان باقياً، وبما أنّا لمنحرز بقاء الموضوع فلم نحرز الاتّحاد بين القضيّتين، وبدونه لا يمكن جريانالاستصحاب.
وأمّا الثاني ـ وهو استصحاب بقاء الموضوع ـ فلعدم الشكّ في انقلاب
- (2) قِمّة الرأس: أعلاه. م ح ـ ى.
(صفحه454)
حادث زماني ليحكم ببقاء المتيقّن، إذ مع قطع النظر عن وضع اللفظ وتردّدمفهومه بين السعة والضيق ليس لنا شكّ في أمر خارجي، فإنّ استتار القرصعن الاُفق حسّي معلوم لنا بالعيان، وذهاب الحمرة غير متحقّق كذلك، فماذيكون هو المستصحب؟
وبعبارة واضحة: إنّ المعتبر في الاستصحاب أمران: اليقين السابقوالشكّ اللاحق مع اتّحاد المتعلّق فيهما، وهذا غير متحقّق في الشبهاتالمفهوميّة، فإنّ كلاًّ من الاستتار وذهاب الحمرة متيقّن فلا شكّ، وإنّما الشكّ فيبقاء الحكم، وفي وضع اللفظ لمعنى وسيع أو ضيّق، وقد عرفت أنّالاستصحاب بالنسبة إلى الحكم غير جارٍ، لعدم إحراز بقاء الموضوع، وأمّبالإضافة إلى وضع اللفظ فقد تقدّم أنّه لا أصل يكون مرجعاً في تعيين السعةأو الضيق.
وما نحن فيه من هذا القبيل بعينه، فإنّ الشبهة فيه مفهوميّة، والموضوع لهمردّد بين خصوص المتلبّس أو الأعمّ منه ومن المنقضي، فالاستصحاب ليجري في الحكم، لعدم إحراز اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع المشكوكة، فإنّ المولى إذقال: «أكرم كلّ عالم» وكان زيد متلبّساً بالعلم في حال صدور الحكم، ثمّانقضى عنه قبل الامتثال، فالقضيّة المتيقّنة إنّما هي وجوب إكرام زيد من حيثإنّه عالم، وهذه الحيثيّة ليست محرزة حين الشكّ في الوجوب، وكذلك لا يجريالاستصحاب بالنسبة إلى الموضوع، لعدم الشكّ في شيء خارجاً، لأنّا نقطعبأنّ زيداً كان متلبّساً بالعلم في حال صدور الحكم، وأنّه ليس متلبّساً به حينالامتثال، وإنّما الشكّ في مفهوم «العالم» وأنّه هل وضع لخصوص المتلبّس أوللأعمّ منه ومن المنقضي، وقد عرفت أنّه لا أصل يرجع إليه في تعيين مفهوم
ج1
اللفظ ووضعه سعةً وضيقاً(1).
هذا ما أورده بعض الأعلام على المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام.
ويمكن المناقشة في كلامه بوجه آخر أيضاً، وهو أنّه لو سلّمنا جريانالاستصحاب في الشبهات المفهوميّة لكان جارياً في الفرض الأوّل(2) أيضاً،لأنّ زيداً وإن كان منقضياً عنه المبدء في حال صدور الحكم وشككنا في صدقالعالم عليه حقيقةً، إلاّ أنّه كان قبله عالماً قطعاً، فيستصحب ليترتّب عليهوجوب الإكرام، إذ لا يشترط في جريان الاستصحاب ترتّب الأثر علىالمستصحب في ظرف اليقين، بل يكفي ترتّبه عليه في ظرف الشكّ فقط.
والحاصل: أنّ المحقّق الخراساني رحمهالله إن كان قائلاً بعدم جريان الاستصحابفي الشبهة المفهوميّة كان المرجع أصالة البراءة في كلا الموردين، وإن كان قائلبجريانه فيها كان المرجع هو الاستصحاب كذلك، فالتفصيل بينهما بجعل الموردالأوّل مجرى البراءة والثاني مجرى الاستصحاب باطل قطعاً على كلا المبنيين.
إشارة إلى الأقوال في مسألة المشتقّ
إذا عرفت ما ذكرنا من المقدّمات فاعلم أنّ الأقوال في المسألة وإنكثرت(3)، إلاّ أنّها حدثت بين المتأخّرين بعدما كانت ذات قولين بين المتقدّمينكما قال المحقّق الخراساني رحمهالله (4).
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 269.
- (2) وهو ما إذا كان صدور الحكم بعد الانقضاء في مقابل الفرض الثاني الذي كان صدوره قبل الانقضاء.م ح ـ ى.
- (3) من أراد الاطّلاع على تمام الأقوال فليراجع إلى الكتب المفصّلة كالقوانين والفصول. منه مدّ ظلّه.
(صفحه456)
والأقوال المفصّلة ستّة، وحيث إنّها إمّا باعتبار الموادّ، كالتفصيل بين اللازموالمتعدّي(1) بكون الأوّل حقيقة في خصوص المتلبّس والثاني في الأعمّ، أوباعتبار الأحوال، كالتفصيل بين المحكوم به والمحكوم عليه بكون الأوّل حقيقةفي خصوص المتلبّس والثاني في الأعمّ، فليس التعرّض لها بمهمّ، لما مرّتالإشارة إليه من أنّ اختلاف المبادئ والأحوال لا يوجب الاختلاف فيما نحنبصدده في مبحث المشتقّ من تحقيق مفهوم هيئته اللغوي التصوّري(2)، فتمامملاك البحث هو الهيئة لا المبادئ والأحوال.
وأمّا مثل الزوج والزوجة والحرّ والعبد من الجوامد فإنّها وإن لم يكن لهوضع على حدة بحسب خصوص هيئاتها، بل وضع المجموع منها ومن الموادّلمعانيها، إلاّ أنّ مفهومها حيث يكون جارياً على الذات منتزعاً منها بملاحظةاتّصافها بالمبدء كالمشتقّات النحويّة فلو اعتبر التلبّس في المشتقّات النحويّةاعتبر فيها أيضاً وإلاّ فلا.
- (1) كالقائم والضارب المتّحدين بحسب الهيئة المختلفين بحسب لزوم المادّة وتعدّيها. منه مدّ ظلّه.
- (2) لا فيما يستفاد بحسب الحمل والجري كي يفصّل بين المحكوم به والمحكوم عليه. منه مدّ ظلّه.