أنّ ما هو الموضوع حقيقةً هو المعلوم من الأمرين.
فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، أعني بها جامعمحمولات المسائل، وتمايز المسائل بتمايز الموضوعات فيها.
وقد تبيّن لك بما ذكرناه فساد ما ربما يتوهّم في المقام من أنّه لِمَ لا يجوز أنتكون الجهة المشتركة بين مسائل العلم المائزة إيّاها من سائر العلوم، هيعبارة عن الكلّي الجامع لموضوعات المسائل، والجهة الّتى بها يمتاز كلّ مسألةمن غيرها عبارة عن خصوصيّات موضوعات المسائل، وعلى هذا فتوجدكلتا الجهتين في عقد الوضع، ويكون موضوع العلم عبارة عن الكلّي الجامعلموضوعات المسائل.
توضيح الفساد: أنّك قد عرفت أنّ موضوع العلم هو الحيثيّة المعلومة التييطلب في العلم تعيّناته، ويبحث فيه عن عوارضه التي تحمل عليه، وليس هذإلاّ ما هو الجامع للمحمولات، فإنّه الحيثيّة المنسبقة إلى الذهن، التي يبحث فيالعلم عن عوارضها.
والظاهر أنّ ما ذكرناه هو مراد القوم أيضاً، حيث أضافوا قيد الحيثيّة فيبيان موضوع العلوم الأدبيّة، فقولهم: إنّ موضوع علم النحو هو الكلمة منحيث الإعراب والبناء، وموضوع علم الصرف هو الكلمة من حيث الصحّةوالاعتلال، وهكذا، إنّما يريدون بذلك كون حيثيّة الإعراب والبناء موضوعلعلم النحو، وحيثيّة الصحّة والاعتلال موضوعاً لعلم الصرف.
وعلى هذا فيكون تمايز جميع العلوم بتمايز الموضوعات، وبعبارة اُخرى بتمايزجامع المحمولات، فإنّه لا فرق بين موضوع العلم وبين جامع محمولاتمسائله إلاّ في التعبير(1).
نقد ما اختاره السيّد البروجردي رحمهالله في تمايز العلوم
وفي كلامه رحمهالله مواقع للنظر:
1ـ لا إشكال في ما ذهب إليه في المقدّمة الاُولى، من أنّ في جميع مسائلالعلوم جهتين ذاتيّتين:
إحداهما: مغايرة مسائل كلّ علم مع مسائل سائر العلوم، والثانية: أنّمسائل كلّ علم وإن كانت متشابهة متسانخة، إلاّ أنّ لكلّ منها مغايرة مع سائرالمسائل من ذلك العلم، مثلاً لقولنا: «الفاعل مرفوع» مغايرة مع «الصلاةواجبة» ومغايرة اُخرى مع «المفعول منصوب» حال كونه مسانخاً ومشابهأيضاً للثاني.
لكنّ الإشكال في دعوى استناد المغايرتين المذكورتين بالموضوع والمحمولوعدم دخل النسبة في ذلك، كيف وللربط بين الموضوع والمحمول دور مهمّ فيتحقّق المسألة، بل ما هو المجهول للمخاطب، والمتكلّم يريد إفادته إنّما هو بيانالنسبة والهوهويّة بين الموضوع والمحمول.
فحينما نقول: «الفاعل مرفوع» لا نريد تفهيم «الفاعل» أو «المرفوع»، بلنريد تفهيم كون الفاعل مرفوعاً.
والعجب من قوله في تعليل دعواه: «إذ النسبة معنى آليّ، توجد في جميعالقضايا بنحو واحد، ولا تختلف باختلاف المسائل».
فإنّ النسبة وإن كانت معنىً حرفيّاً آليّاً إلاّ أنّها المقصودة بالإفهام في جلّالمحاورات. ووجود النسبة في جميع المسائل لا يستلزم اتّحادها في الجميع، فإنّالنسبة بين «الفاعل مرفوع» مغايرة للنسبة بين «المفعول منصوب»، واشتراكالمسألتين في كونهما بصورة المبتدأ والخبر لا يوجب اتّحاد معناهما والنسبة
ج1
بينهما، فإنّ نسبة المرفوعيّة إلى الفاعل غير نسبة المنصوبيّة إلى المفعول. فليصحّ القول بانحصار التمايز في محدودة الموضوع والمحمول، وعدم دخل النسبةفيه.
2ـ قال رحمهالله في المقدّمة الثانية: تمايز مسائل كلّ علم في أنفسها بتمايزموضوعاتها، وتمايز العلوم بتمايز ما هو الجامع لمحمولات مسائلها، وابتنى ذلكعلى وحدة جميع المحمولات في بعض العلوم كالفلسفة، ووحدة محمولاتبعض الأبواب في بعض آخر، كباب المرفوعات من علم النحو، وعلى اختلافالموضوعات في جميع المسائل من جميع العلوم.
وفيه: أنّ الأمر في بعض العلوم بعكس ذلك، كالعرفان، فإنّ موضوعهوموضوع جميع مسائله شيء واحد، وهو اللّه، فكيف يمكن القول بأنّ تغايرمسائل كلّ علم في أنفسها بتغاير موضوعاتها؟!
3ـ قال رحمهالله : المشهور موافق لنا في ملاك تمايز العلوم، فإنّهم وإن عبّروا بأنّتمايزها بتمايز الموضوعات، إلاّ أنّ موضوع العلم عبارة عن الجامع لمحمولاتمسائله.
وفيه: أنّ هذا من قبيل تفسير ما لا يرضى صاحبه، فإنّ المشهور ذهبوا إلىأنّ موضوع علم النحو مثلاً هو الكلمة والكلام، ولا ريب في أنّ المسائلالنحويّة هي «الفاعل مرفوع»، و«المفعول منصوب»، و«المضاف إليه مجرور»،وهكذا، فانظر إلى وجدانك فهل تجد الموضوع الذي هو الكلمة والكلامجامعاً للفاعل والمفعول والمضاف إليه، أو للمرفوع والمنصوب والمجرور؟
لا ريب في أنّ الصحيح هو الأوّل، وأمّا الجامع بين هذه المحمولات فهو«كيفيّة آخر الكلمة» لا الكلمة والكلام.
إن قلت: يؤيّد ما ذكره آية اللّه البروجردي رحمهالله أنّ موضوع الفلسفة هو
(صفحه60)
«الوجود» ومحمول جميع مسائلها أيضاً هو «موجود»، حيث نقول: اللّهموجود، الجوهر موجود، العرض موجود، وهكذا، ولا ريب في أنّ الوجودجامع هذه المحمولات.
قلت: كون الوجود موضوعاً للفلسفة وإن كان ملائماً للقول بأصالةالوجود، لكنّه لا يناسب القول بأصالة الماهيّة، لأنّ الوجود على هذا القول أمراعتباري، فالقول بكونه موضوعاً للفلسفة يستلزم أن يكون البحث عندالقائلين بأصالة الماهيّة في جميع الأبواب بحثاً عن أمر اعتباري، وحيث إنّه ليمكن الالتزام بهذا اللازم في الفلسفة التي يبحث فيها عن حقائق الأشياء،فلابدّ من حلّ الإشكال بأحد وجهين:
أ ـ أن نلتزم في خصوص الفلسفة بما التزم به آية اللّه البروجردي رحمهالله في جميعالعلوم، وهو أنّ مسائل الفلسفة من قبيل عكس الحمل، بمعنى أنّ صورةالمسائل وإن كانت «اللّه موجود، الجسم موجود، العرض موجود» وهكذا،لكنّها في الواقع «الموجود هو اللّه، الموجود هو الجسم، الموجود هو العرض»وهكذا، وكلمة الموجود في هذه القضايا بمعنى «الواقع»(1).
فبالنتيجة موضوع الفلسفة هو الجامع بين موضوعات مسائلها لا الجامعبين محمولاتها.
ب ـ والأحسن أن يقال: الوجود ليس موضوع الفلسفة، بل موضوعه«الواقعيّة»(2)، ويبحث في الفلسفة عن عوارضها، سواء قلنا بأصالة الوجود أو
- (1) فقولنا: «الموجود هو الجسم» يكون بمعنى «الواقع هو وجود الجسم» عند القائلين بأصالة الوجود،وبمعنى «الواقع هو ماهيّة الجسم» عند القائلين بأصالة الماهيّة. م ح ـ ى.
- (2) والذين قالوا بموضوعيّة الوجود هم القائلون بأصالته، لأنّ الواقعيّة تنحصر عندهم في الوجود.منه مدّ ظلّه.